لم يكد يغيب عن أذهان المسلمين حول العالم فضيحة الصور التي التقطها الصحفي المتطرف من اليهود الحريديم يوسف زينيتش والتي نشرتها عدة مواقع عبرية من بينها صحيفة “إسرائيل هيوم”، وهو يقف بزهو في صحن الحرم النبوي الشريف بابتسامة لها دلالة فهمها كل مسلم حول العالم.

لم يكد يمر ذلك حتى بدا أن تلك الصور لم تكن سوى تدشينا لخطوات أخرى لاحقة ضمن حملة ممنهجة يقودها ولي العهد محمد بن سلمان لطمس الهوية الدينية الإسلامية عن المشاعر المقدسة التي لطالما ظلت عصية عن أي محاولة لجرها في آتون الصراع السياسي والاجتماعي في تاريخ العالم الإسلامي.

هذه الخطة الشرسة على منطقة المشاعر المقدسة تزامن مع إعلان ابن سلمان ما يسمى برؤية المملكة 2030 والتي تهدف لشحذ مداخيل الاقتصاد السعودي وتنويعه للخروج من عباءة الاعتماد الكلي على النفط والذي دفعت ثمنه غاليا بلاد نفطية انهارت كليا مع تأرجح أسعار النفط عالميا وفي مقدمتها فنزويلا اللاتينية.

بدت الرؤية في بدايتها مثالية وحالمة، وأغرى كثيرين من الموهومين بمعسول الكلام الذي تضخه أبواق آل سعود على الشاشات ليل نهار حول المستقبل المشرق الذي ينتظر المملكة وأهلها، لكن سرعان ما تبين أن هذه الرؤية لم تكن سوى ستارا لخطة أكبر تستهدف كل ما هو ذا قيمة في بلاد الحرمين الشرفين.. وفي مقدمتها بالطبع، الحرمان نفسهما!

فعلى مدار تاريخ الإسلام كله، ظلت منطقة المشاعر المقدسة في مكة والمدينة حكرا على المسلمين الذين يقيمون فيها الشعائر المقدسة كل عام، وهو تقليد إنساني عام متبع في كل الأديان تقريبا، والتي يخصص فيها أتباع كل دين مكانا لحجهم وقبلة لدينهم، وهو الأمر الذي يتفهمه العالم ويحترم كل أصحاب دين أحقية الآخرين في ذلك.

لكن التاريخ سيكتب أن أول دين تخلى قادته عن هذا الشرط المهيب كانوا المسلمين، والذين انحدرت بهم السبل حتى بات أمر بيت الله الحرام ومدينة رسول الله في يد مراهق قاتل ومستبد يسعى بكل طريقة ممكنة لتثبيت أركان حكمه ولو على حساب دين الله وأرضه المقدسة.

هكذا بدت واضحة ملامح خطة ابن سلمان للاستفادة القصوى من منطقة المشاعر المقدسة، فما المانع من أي يزداد عدد “السائحين” سنويا عدة آلاف من غير المسلمين ليلتقطوا الصور أمام قبر النبي ويزاحموا المسلمين في بقعتهم المقدسة ويؤذوا رسول الله في مقامه ويعبثون بثابت ديني أصيل وعرف دائم يمنع غير المسلمين من مجاورة مقام رسول الله.

إلى حد الحرم

وقبل ساعات، تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي صورا للوحات مرورية على الطرق المؤدية للمدينة المنورة وقد أزيلت منها عبارة “للمسلمين فقط” واستبدلت بـ”حدود الحرم”، وهي خطوة كشفت بجلاء أن خطوات ابن سلمان لسلخ المملكة عن هويتها المسلمة لم تكن عبثية ولا عشوائية وإنما تنتظم ضمن خطة ممنهجة، ويبدو أننا في لحظاتها الأخيرة.

وعلى مدار عقود من تاريخ الإسلام، ظلت منطقة المشاعر المقدسة ومقام رسول الله عصية على اختراق غير المسلمين، ليس التزاما بنص ديني ثابت وحسب، بل احتراما وصيانة لمقام رسول، وتعزيزا لفرص المسلمين القادمين من كل حدب وصوب لينالوا لحظات غالية أمام المقام الكريم، بعدما قطعوا في سبيل ذلك آلاف الأميال مشقة وتعبا.

لكن ما يخطط له ابن سلمان اليوم هو نزع حصرية الدين عن تلك البقعة المقدسة، وتحويلها إلى مزار سياحي اقتصادي يسهم في زيادة دخل المملكة عبر تحويل مقام رسول الله إلى حائط تذكاري لالتقاط الصور، وسيتخفف الحراس حول المقام يوما بعد يوم عن قيود استباحة المساجد، وربنا نجد في الأيام المقبلة صورا لنساء حاسرات الرأس وهن يصورون مقاطع التيك توك عند المقام الكريم.. وعندها سينام ابن سلمان لأول مرة مطمئن البال!

استهداف متعمد

وفي حين مثّل رجال الدين في التاريخ السياسي للمملكة ركيزة أساسية بالتوزاي مع القيادة السياسية، فإن سياسة ابن سلمان حملت معها اعتقالات متتالية لرجالات الدين الذين يمكن أن يُخالفوا التغييرات الليبرالية التي صبغت سياسات ابن سلمان منذ صعوده المثير للسلطة.

فمع اعتقال العشرات من الدعاه البارزين في المملكة، وقطع ذراع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي شكلت على مدار سنوات الهيئة الأكبر للحضور الإسلامي بالمملكة اجتماعيا، ومع إطلاق هيئة موازية تتولى عملية تغريب المملكة وخلعها عن هويتها المسلمة، بدا واضحا أن القادم لن يكون سعيدا على المسلمين حول العالم، وأن منطقة المشاعر المقدسة تشهد هي الأخرى احتلالا لا يقل غشامة وحقدا عما يشهده بيت المقدس في فلسطين المحتلة، وأن مسرى رسول الله الذي يئن اليوم تحت وطأة الاحتلال بات في كثير من الأحيان أحسن حالا من معراج رسول الله الذي يستقبل الهجمات من لحى مسلمة وأسماء عربية، وبات اليوم في سهام ابن سلمان ونظامه، لتنطلق السهام نحو مكة والمدينة، من مكة والمدينة!