لم يعد خافيا كيف حوّلت البسالة الفلسطينية اللافتة سواء في القدس أو الضفة، أو القطاع المحاصر في غزة الذي يتعرض لوابل غير مسبوق من القذائف والعدوان الصهيوني المستمر، فضلا عن التضامن الشعبي العربي والدولي الواسع مع الشعب الفلسطيني الذي بدا واضحا في تظاهرات وفعاليات دولية مستمرة وممتدة عبر أصقاع الأرض. – لم يعد خافيا كيف دمر هذا كله أحلام الإمارتيين في شرق أوسط جديد تماما.
لطالما حملت الإمارات على كاهلها مشروعا لتغيير هوية المنطقة العربية بأكلمها، ولكن الغريب -وربنا لا نشهده كثيرا في التاريخ إلا في نوادر الأغبياء- فإن سعي الإمارات الحثيث لوأد آمال المنطقة العربية في التغيير لا تهدف لمنحها الزعامة، بل تمنح القيادة للعدو الإسرائيلي، في واحدة من أغرب مستهدفات العمل السياسي، حيث تبذل الإمارات قصاري جهدها لنصرة إسرائيل وفرض زعامة الصهاينة على رقاب العرب، وتبذل الإمارات في سبيل ذلك جهودا غير عادية تتجاوز حتى ما تبذله دولة الكيان لتحقيق الهدف ذاته.
وخلال حقبة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، اليميني المؤيد لإسرائيل، صالت الإمارات وجالت بغية تعزيز الصعود الإسرائيلي في المنطقة العربية على حساب العرب، ووجدت أبو ظبي في إدارة ترامب خير معين على تحقيق ذلك، وهو ما أسفر في النهاية عن تحقيق إسرائيل ما اعتبرته أبو ظبي (مكاسب تاريخية) لم تتحقق في عمر الاحتلال منذ تأسيسها المزعوم.
كانت ملامح خطة الإمارات لتصعيد إسرائيل تتحرك بنجاح، وبدا كل شيئ ينذر باقتراب إعلان إسرائيل زعيمة للمنطقة العربية، وظهر بجلاء حجم الإخلاص والسعي الحثيث الذي تمتعت به إمارات الأبراج الفارهة في خدمة إسرائيل، ونجحت المليارات الإماراتية في شراء ذمم المأجورين من السياسيين والكتاب والإعلاميين وعدد ممن يطلق عليهم نخبة المثقفين العرب، مما أسفر في النهاية عن حضور غير مسبوق لاسم إسرائيل إيجابيا على الشاشات العربية.
وأمام هذا السعي الإماراتي -ومن خلفه الدعم السعودية التي يتوقع كثير من المصادر الغربية والأميركية إقدامها الوشيك على التطبيع- غرّد الكاتب السعودي تركي الحمد على تويتر قائلا “ببساطة.. فلسطين ليست قضيتي”، ورغم أنه كان يدرك أنه يقول كلاما خطيرا، لكنه أراد على ما يبدو دفع الذباب الإلكتروني من جديد لتأييد التطبيع الإماراتي الإسرائيلي.. وقد نجح في ذلك.
وفور تغريدة الحمد، اندفع الذباب الإلكتروني -وهو خلايا مليونية تنشط في تويتر تحت أسماء وهمية في غالبها، ويتم توجيهها بإشارة لنصرة قضية أو مهاجمة أخرى، تبعا لما يتسق مع توجهات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان- لتأييد التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، والتقط إشارة الحمد على عجل، ودفع بوسم “فلسطين ليست قضيتي” إلى قائمة الأكثر تداولا عالميا.
وبطبيعة الحال، فإن الإعلام الإماراتي بات من الصعب تمييزه عن نظيره العبري سوى في شكل الحرف المكتوب به الأخبار والمقالات، فضلا عن الحماس الضخم لدعم إسرائيل بقوة قد لا نجدها في المواقع الإسرائيلية نفسها، وباتت أبو ظبي وجهة الصهاينة المثالية لحضور الوفود والفعاليات التي تستضيف إسرائيليين.
وفور إعلان اتفاقية التطبيع الإماراتي الإسرائيلي علنا أواخر العام الماضي، جندت الإمارات كل قوتها لشد حليفتها السعودية للانجرار في مسار التطبيع، وهو ما بدا واضحا أن وجد استجابة مريحة من الحليف خادم الحرمين الشريفين، حيث قال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بعد توقيع الاتفاقية إن المملكة ملتزمة بالسلام مع إسرائيل على أساس مبادرة السلام العربية، وهو ما اعتبر أول تصريح رسمي سعودي منذ الإعلان عن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي.
ولم يعقب بن فرحان بشكل مباشر على إعلان الإمارات وإسرائيل اتفاقهما على تطبيع علاقاتهما بشكل كامل، غير أنه قال “أي جهود تنهض بالسلام في المنطقة وتفضي إلى تعليق خطة الضم يمكن أن ننظر إليها نظرة إيجابية”.
لكن هذا التأييد الحيي لم يدم طويلا، قبل أن ينقل الملياردير اليهودي الأميركي حاييم سابان عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قوله إنه يخشى من مهاجمة القطريين والإيرانيين في حال أقام علاقات علنية مع إسرائيل.
وكشف سابان -الذي توسط من أجل إبرام اتفاق السلام بين الإمارات وإسرائيل- في حديث لصحيفة يديعوت أحرونوت عن أنه التقى على مأدبة عشاء محمد بن سلمان وسأله: لماذا يبقي العلاقات مع إسرائيل تحت الرادار؟ لماذا لا يخرج ويقود الأمور؟ فأجابه أنه يستطيع أن ينفذ ذلك في لحظة، لكنه يخشى من مهاجمة القطريين والإيرانيين له، كما يخشى من حدوث فوضى داخل بلاده أيضا.
لكن الصمود الفلسطيني الأخير في الضفة وغزة والقدس هدم كل تلك المساعي التطبيعية رأسا على عقب وأعاد بوصلة القضية إلى موضعها في نفوس الأجيال الصاعدة، وعزز من حضور القدس كرمزية جامعة للقضايا العربية وشعوب المنطقة على اختلاف تنوعاتها الثقافية والعرقية، وربط اسم إسرائيل عالميا بالإرهاب والعدوان، وجدد ذاكرة الأجيال بأن القدس قضية كل عربي شريف حر حول العالم.
وبالفعل، لم تجن الإمارات من ملياراتها المهدرة على التطبيع سوى مزيد من الحسرة والندامة بعدما نجح الصمود الفلسطيني في كسر شوكة مسار التطبيع، وفرض على العالم التعامل بصورة مختلفة بحقوقه التي قاتلت الإمارات لإقناع العالم بأنها باتت من الماضي، وأقيمت المآتم في أبو ظبي أكثر منها في تل أبيب، ليبدو للعالم أجمع أن الخاسر الأكبر من الصمود الفلسطيني ليست إسرائيل، وإنما الإمارات!
اضف تعليقا