تصفية القضية الفلسطينية ليس أمراً مستحدثاً، بل هو هدف بدأه الإسرائيليين منذ عقود، فبعد سنوات قليلة من قيام “دولة إسرائيل”، لم يعد اسم “فلسطين” مستخدماً في بريطانيا، أبسط مثال عندما كنت طفلة وسُئلت من أين أتيت، اعتقد الناس أنني قلت “باكستان” وليس “فلسطين”… نظراً لتشابه نطقهما بالإنجليزية.
أتذكر كم كان الأمر محبطاً حين لم يرغب أحدٌ في سماع قصتنا، كنا نُعامل كما لو أننا اخترعناها. لطالما قيل لي “إنها أرض اليهود”…. “العرب وضعوا يدهم عليها”، تفاقم الوضع بعد انتصار إسرائيل في حرب 1967 وهزيمة العرب، وأصبحت الرواية الصهيونية لحق الشعب اليهودي الأخلاقي في الوجود على “أرض أجداد” هي السائدة، ما تسبب لنا في شعور دائم بأننا بشر من الدرجة الثانية مع عدم وجود حق شرعي في بلادنا التي أصبحت “بلد شخص آخر”، كان الشعور محبطاً ومخيفاً.
لقد استغرق الأمر مني سنوات لفهم هذا التشويه المتعمد للتاريخ باعتبارها تعبيرات عن عنصرية عميقة وغير معلن عنها ضد الفلسطينيين. الفرضية الأساسية التي تم اعتمادها هي أنه فيما يتعلق بفلسطين، فإن حقوق الفلسطينيين تكون دائمًا أدنى من حقوق الشعب اليهودي. لقد سبقت وجهات النظر العنصرية هذه فترة طويلة من قيام دولة إسرائيل وكانت تقوم على إنكار الوجود الفلسطيني في الدولة. بمجرد أن اختار الصهاينة فلسطين لتكون دولة يهودية، في نهاية القرن التاسع عشر، جرت محاولات منظمة لمحو أي وجود عربي في الأرض من التاريخ.
في عام 1875، رأى اللورد شافتسبري، وهو صهيوني مسيحي ملتزم وذا علاقات جيدة كان يروج لفكرة أن فلسطين “دولة بلا شعب”، هذا ومن هذا الوصف انبثقت الرواية الصهيونية الأوسع التي تقول إن فلسطين “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
تصور الخرائط الصهيونية في ذلك الوقت الشيء نفسه، واكتسبت فكرة “فلسطين الفارغة” رواجاً واسعاً، كان الهدف آنذاك، كما هو الحال الآن، هو إخفاء السكان الأصليين الفلسطينيين من المشهد، وحرمانهم من حقوقهم في الأرض.
لم تكن هذه الرواية الخبيثة مسألة ديموغرافية إلى حد كبير، لأن أي زائر لفلسطين يمكن أن يدحضها بسهولة، ولكن كانت سياسية من الدرجة الأولى، في وقت الغزو البريطاني لفلسطين، لم يكن السكان الأصليون يُنظر إليهم على أنهم غائبون، لكن حاضرون بلا قيمة، ثم صيغ وعد بلفور عام 1917، الذي اعترف بالرواية الصهيونية التي تريد إنشاء “وطن قومي لليهود” في فلسطين.
كما قال آرثر بلفور في عام 1919: “في فلسطين لا نسعى حتى للتشاور مع رغبات السكان الحاليين للبلاد”، لأن الصهيونية كان لها ادعاء “ذو أهمية أعمق بكثير من رغبات وتحيزات 700000 عربي يسكنون الآن تلك الأرض القديمة”.
كان هذا الازدراء الاستعماري “للسكان الأصليين” شائعًا في ذلك الوقت ومع بداية الانسحاب البريطاني، أصبح تجاهل الصوت والحضور الفلسطيني هو القاعدة الأساسية، كما فعل بلفور.
أعرف حقيقة ذلك في كفاحي المستمر طوال حياتي لإثبات صحة تاريخي وتاريخ بلدي، ولمحاربة تصفية القضية الفلسطينية ونزع الشرعية عن مقاومتنا.
بدأت الأمور تتحسن في الثمانينيات والتسعينيات، عندما اكتسب الفلسطينيون حضورًا إعلاميًا، وازدادت المذكرات والكتب التي يتم نشرها من قبلهم، إلى أن وصلنا إلى اليوم، حيث اختلف الوضع بشكل كبير، وأصبحت مثل هذه القضايا مادة في العديد من المذكرات الفلسطينية الحديثة التي كتبت للجمهور الغربي.
كان تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 وانتفاضتا 1987 و2000 من الأحداث التي أعادت فلسطين إلى الساحة الدولية، كما منحت اتفاقية أوسلو عام 1993، رغم عيوبها العديدة، قضية فلسطين وزناً دبلوماسياً.
ظهرت حركات التضامن في العديد من الدول الغربية، ولفتت حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات المشددة (BDS) الانتباه إلى سوء معاملة إسرائيل للفلسطينيين.
ومع ذلك لم تختف العنصرية، الخلاف الأخير حول معاداة السامية في حزب العمال، ورحيل زعيمه السابق، جيريمي كوربين، أمر ذو صلة كبيرة بما يحدث، الحملة الإسرائيلية التي استهدفت إسقاطه، كان لها دور كبير في حجب العنصرية التي تمارس ضد الفلسطينيين لأكثر من قرن.
وبدون ذلك التغافل عن انتهاكاتها، لما كانت إسرائيل موجودة أو قوية، وهو ما يؤكد أن الغرب يدعم بلا خجل دولة فصل عنصري، مع عدم احترام القانون الدولي، وهذا يوفر بالطبع حماية للنظام الإسرائيلي الذي لم تتوقف انتهاكاته ضد الفلسطينيين يومياً: الحصار المميت لغزة، الذي تعرض للقصف الوحشي – مرة أخرى – أمام أعين العالم؛ السرقة الواضحة للأراضي حدود 1967 لـ 60٪ من الضفة الغربية المحتلة لنحو 600 ألف مستوطن؛ اعتداءات الجيش التي لا هوادة فيها على الفلسطينيين وأطفالهم واعتقالهم في جميع أنحاء الأراضي المحتلة، وما يشجعه على ذلك هو تقاعس الغرب في التصدي لهذه الجرائم.
العنصرية هي سمة موثقة جيدًا لسلوك إسرائيل تجاه مواطنيها العرب، إنها تتغلغل في كل مستويات المجتمع الإسرائيلي: الإسكان، والحياة الاجتماعية، والتعليم، وحقوق الهجرة، والنظام القانوني، وأكثر من ذلك.
كان التمييز ضد العرب، وحتى ضد المزراحي (اليهود من أصل شرق أوسطي) واسع الانتشار في عام 2014 لدرجة أن الرئيس الإسرائيل، رؤوفين ريفلين، أعلنها صراحة: “المجتمع الإسرائيلي مريض… من واجبنا علاج هذا المرض “.
أما في بريطانيا فالمساحة التي فتحت أمام الرواية الفلسطينية بدأت بالتقلص، فهناك في الطريق محاولات جديدة تهدف لإسكان الصوت الفلسطيني، مثل استخدام تعريف معاداة السامية الذي أعده “التحالف الدولي لذكرى الهولوكوست” واعترفت به الحكومة البريطانية و28 دولة أخرى وربما دمجته الولايات المتحدة في القانون الفدرالي. كما أن فرضه بالإكراه على الجامعات البريطانية ترك أثره المخيف على حرية التعبير المتعلق بالقضية الفلسطينية، مع أن دراسة مسحية أجريت في أيلول/ سبتمبر وجدت أن 29 جامعة من 133 تبنت التعريف.
إن حل الدولتين الذي تحب الدول الغربية الحديث عنه ما هو إلا تعبير لطيف عن العنصرية المستمرة، فمقترح الدولة الفلسطينية على أراضي ما بعد 1967 يعني منح الفلسطينيين 22% من أرضهم الأصلية ومنح 78% منها لإسرائيل.
وبعيدا عن كون هذا المقترح قابلا للتطبيق اليوم أم لا في ظل 200 مستوطنة في الضفة الغربية والقدس الشرقية والتي تكسر الإستمرارية للدولية، تظل الصيغة غير عادلة. ولن يقبل بتخفيض حقوق الفلسطينيين إلا العالم المؤمن برؤية بلفور عن “الأصليين” غير المهمين. وقبول الفلسطينيين بهذا ليس قائما على العدل، ولكن البراغماتية وكل ما سيحصلون عليه دولة صغيرة. ولن تحل المشكلة. ويجب أن يقوم الحل الدائم على العدل ولا يأتي إلا عبر التفاوض بين طرفين متساويين، ولن يحدث هذا إلا عندما يتم فضح ومعالجة العنصرية التي أفسدت حياة الفلسطينيين وحمت إسرائيل وأنصارها من القصاص.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا