في مشهد سريالي غريب، التقطت الصحف العالمية صورة لأحد اللافتات المرفوعة في تظاهرات “طلعت ريحتكن” اللبنانية مطلع العام الماضي ضمن سلسلة تظاهرات نظمها الشعب المكلوم احتجاجا على النظام الطائفي السياسي الذي حوّل البلاد إلى كومة من التضخم والانهيار الاقتصادي العاصف، وجعل بيروت وما حولها ساحة صراع لمصالح دول إقليمية وغربية، وهو ما رفع من مستوى تعقيد أزماته.
كانت اللافتة تحمل عبارة صادمة: “أنقذينا يا باريس”، وهو ما عادت لترفع من مستوى صدمته وصداميته إحدى المشاركات في التظاهرات التي قالت لمراسلة إحدى الوكالات الدولية، بلغة فرنسية صريحة: “نطلب من السيد ماكرون أن يتدخل لإنقاذ بلدنا مما يحوق به من مؤامرات دمرت حاضر بلدنا ومستقبل أولاده، وأهانت تاريخه”.
بدا واضحا إذن -أو هكذا أريد له أن يكون واضحا- أن أصواتا لبنانية وطنية ترغب في “دور فرنسي أكبر” في المشهد اللبناني، ليحدث لاحقا ما هو متوقع في أي عمل مسرحي بدائي، حيث سينطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في صولات وجولات ظاهرها إنقاذ لبنان وحلحلة أزماته المترامية هنا وهناك، وباطنها وصاية جديدة للمستعمر الفرنسي الذي لم ينس ماضيه الإجرامي.
وفي رصد التدخلات الفرنسية في لبنان، لن يكون سهلا حصر كافة التصريحات والزيارات والمشاهد التي سمح فيها المسؤولون الفرنسيون لأنفسهم بالتدخل السافر في الشأن اللبناني، ولكن يحسن الوقوف على آخرها، والذي تجاوزت فيه فرنسا مجرد التدخل الصريح، إلى استدعاء شريك دولي يؤكد لباريس وصايتها على لبنان، ويمثل اعترافا رسميا من المجتمع الدولي بأن اللبنانيين “أقل” من يرشحوا من بينهم من يتحدث باسمهم، وأن السيد ماكرون -مشكورا- سيتطوع لهذه المهمة الشاقة رغم مشاغله الكثيرة وارتباطاته العاصفة!
وهكذا خرج بيان مشترك حمل توقيع السفارة الأمريكية ونظيرتها الفرنسية ليتجاوزا فيه عملهما الديبلوماسي ويتطرقان للداخل اللبناني، ويحسمان أمرهما بإعلان آلية تدخلهما عبر سلسلة تحركات سياسية تقودها السفيرتان الأمريكية والفرنسية لدى بيروت، وفق أجندة خاصة لم يصرح بها البيان، ولا يعلم عنها في دنيانا إلا كاتبو البيان فقط، والذين بالتأكيد، ليس من بينهم لبناني واحد!
السفيرة الفرنسية في بيروت “آن غريو” تلعب دورا أكبر بكثير من مجرد ديبلوماسية لبلادها في بلد أجنبي، إذ سبق -مطلع هذا الشهر- أن “وبخت” رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية داخل السراي الحكومي المحلي، لتعلن -بكل جرأة- أنها ستشرع في تنفيذ “خطة إنقاذ” لم تعلن شيئا عن تفاصيلها ولا أهدافها الحقيقية ولم تعرضها على البرلمان اللبناني وتنال موافقة سياسية من الكيان اللبناني به، مؤكدة أنه سيشاركها في تحركاتها نظيرتها الأمريكية “دوروثي شيا”.
وبإعلان السفيرة الفرنسية في بيروت عن توجهها مع نظريتها الأمريكية إلى العاصمة السعودية الرياض، تفاعلت مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان مع هذا الإعلان، تاركة وراءها جدلا حول السيادة اللبنانية على البلد الذي يصارع أهله من أجل البقاء، وكذلك الحال لنظامه السياسي الطائفي المتجذر رغم الغضب الشعبي المتصاعد.
الخارجية الأمريكية نشرت بيانا قبل يومين قالت فيه إن السفيرة الفرنسية -بحضور نظيرتها الأمريكية- ستبحث مع الجانب السعودي “خطورة الوضع في لبنان، وسوف تؤكد على أهمية المساعدة الإنسانية للشعب اللبناني، فضلاً عن زيادة الدعم للجيش وقوى الأمن الداخلي”.
وتابع البيان الأمريكي: “هذا، وبالشراكة مع نظيريها الفرنسي والسعودي، سوف تواصل السفيرة شيا العمل على تطوير الاستراتيجية الدبلوماسية للدول الثلاث التي تركز على تشكيل الحكومة وحتمية إجراء الإصلاحات العاجلة والأساسية التي يحتاجها لبنان بشدة”.
صحيفة الأخبار اللبنانية لم تجد وصفا لهذا البيان أفضل من عنوانها الذي نشرت البيان تحته والذي جاء نصه: “السفيرتان الأميركية والفرنسية “تتسوّلان” للبنان في السعودية!”، ذاكرة أن هذا التدخل السافر ليس الأول من نوعه من الدول الثلاث “السعودية وأمريكا وفرنسا”، إذ تأتي هذه الخطوة في أعقاب الاجتماع الثلاثي بشأن لبنان بين وزراء الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، والفرنسي جان-إيف لودريان، والسعودي فيصل بن فرحان آل سعود، في 29 يونيو/ حزيران الماضي، على هامش مؤتمر قمة مجموعة العشرين في مدينة ماتيرا بإيطاليا.
وبشكل عام، يشكل النظام الطائفي اللبناني الفريد من نوعه في عالم السياسة الدولية، عقبة أمام أي مشروع جاد لإنقاذ البلاد من عثراتها الاقتصادية المتضخمة، إذ يركز كل فصيل على حماية حصته الطائفية ولو على حساب الاصطدام مع رغبات الشعب نفسه، وبالطبع أيضا على حساب الاصطدامات الداخلية بين الطوائف وبعضها البعض، والتي تمثل قمتها هذه الأيام الخلافات بين الرئيس اللبناني، ميشال عون، ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري.
هذه الخلافات الصاعدة للسطح السياسي اللبناني بوضوح، أدت إلى أن يعجز لبنان منذ أكثر من 7 أشهر عن تشكيل حكومة محلية تعوض استقالة حكومة تصريف الأعمال التي ترأسها حسان دياب، والتي غادرت موقعها في العاشر من آب/أغسطس للعام 2020، ضمن تداعيات الانفجار المفجع لمرفأ العاصمة اللبنانية بيروت.
هذا الانفجار الكارثي لم يكن أكبر كوارث الساحة اللبنانية، إذ إنه ومنذ سنوات يقبع الشعب اللبناني تحت وصاية أزمة مالية هي الأسوأ في تاريخه الحديث كله، والتي أسفرت عن تدهور فج في القدرة الشرائية لمعظم الشعب اللبناني الذي بات يعاني بشكل عام من انهيار مالي مفضوح وممزوج بشح متضخم في توفير الوقود والعلاجات الدوائية المصحوبة بغلاء متصاعد في أسعار السلع الغذائية والمنتجات الأساسية في البلاد.
اضف تعليقا