تأتي الذكرى الخامسة للمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، في وضع يعده كثيرون أفضل كثيرًا لتركيا إذا ما قورن بفترة ما قبل الانقلاب، فقد ساهم الانقلاب الفاشل في إعادة ترتيب الأولويات التركية وهيكلة مؤسسات الدولة، وتطهيرها من أذناب الانقلابيين.

وقد تغلب الشعب التركي وقيادته المنتخبة في 15 يوليو/ تموز عام 2016 على شرذمة من الانقلابيين الخارجين عليه، وعلى الرغم من سقوط مئات القتلى والجرحى في الانقلاب الخامس الذي شهدته تركيا على مدار تاريخها، فإن الأتراك سطروا ملحمة أسطورية في التصدي لدبابات العسكر، وتلقين الجنرالات درسًا قاسيًا في احترام الديمقراطية.

لكن ما تبع الانقلاب كان مهمًا لضمانة عدم رجوع الانقلابيين مرة أخرى لمحاولة الإطاحة بالحكومة المنتخبة. ولذلك اتخذ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إجراءات استثنائية في هذا الوضع الاستثنائي لشل حركة جماعة الخدمة، التي يقودها فتح الله جولن، والتي تقف خلف المحاولة الانقلابية الفاشلة.

 

هيكلة الجيش التركي

ففيما يخص الجيش، الذي يعد أحد أهم وأخطر مؤسسات الدول بشكل عام، كشف وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، أنه قد أقيل أكثر من 20 ألفًا من منتسبي القوات المسلحة التركية، معظمهم من الضباط والرتب العليا، من بعد الانقلاب الفاشل. وكذلك، كشف وزير الداخلية التركي، والذي يعد الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية الحاكم بعد الرئيس أردوغان، أن العمليات الأمنية المنفذة ضد جماعة “الخدمة” المحظورة أفضت إلى اعتقال 312 ألفًا و121 شخصًا.

علاوة على ذلك، تم إلغاء المقعدين المخصصين للجيش في المحكمة الدستورية التي كانت تضم 17 مقعدًا، كما تقرر إلغاء القانون العسكري الذي استخدمه الجيش سابقًا من أجل فرض الحكم العسكري على البلاد. هذا بالإضافة إلى وضع الجيش تحت رقابة مجلس الدولة.

 

مزيد من الإجراءات المنظمة للجيش

وكما يقولون فإن من كل محنة تولد منحة، فقد مثل الانقلاب الفاشل عام 2016 فرصة للرئيس أردوغان لتنظيم عمل الجيش، وترتيب علاقته بالسلطة المدنية المنتخبة. ولذلك يعتبر الانقلاب دافعًا أساسيًا لتنظيم العلاقات والأدوار داخل الجيش و”مجلس الشورى العسكري الأعلى” وإعادة ضبطها، بحيث يتولى وزير الدفاع المسؤولية الأولى للمؤسسة العسكرية، بعد أن كان دوره تنسيقيًا دون سلطة فعليه على المؤسسة، لتصبح تبعية رئيس الأركان لوزارة الدفاع.

ومباشرة بعد الانقلاب، نشرت الجريدة الرسمية التركية قرارًا بإعادة هيكلة “مجلس الشورى العسكري الأعلى”، وهو المجلس الذي يمتلك صلاحيات واسعة في ما يتعلق بإقرار الترقيات العليا في الجيش وإحالة الرتب العليا للتقاعد أو التمديد لها، بحيث أصبح يتكون من عدة أطراف مدنية وعسكرية معًا، دون سيطرة العسكريين عليه تمامًَا كما كان في السابق.

فنص القرار على أن يتكون المجلس من رئيس الوزراء (قبل الانتقال إلى النظام الرئاسي)، ونوابه، ووزراء العدل، والخارجية، والداخلية، والدفاع، ورئيس هيئة الأركان العامة، وقادة القوات العسكرية، بعد أن كان يتكون من رئيسَي الوزراء وهيئة الأركان العامة، ووزير الدفاع، وقادة قوات الجيش، والقائد العامّ لقوات الدرك، وقائد الأسطول، وجنرالات وأدميرالات في القوات المسلحة.

وبعد التعديلات الدستورية، التي أقرت بعد الانقلاب بسنة، عام 2017، والتي انتقلت بموجبها البلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، أصبح مجلس الشورى العسكري الأعلى يُعقد برئاسة رئيس الجمهورية وحضور مساعده ووزير الدفاع والخارجية والداخلية والمالية والعدالة والتعليم، بالإضافة إلى رئيس الأركان وقادة القوات البرية والبحرية والجوية، كما نُقلت الأمانة العامة من رئاسة الأركان إلى وزارة الدفاع.

وبعد ذلك، تتابعت القرارات من الحكومة التركية لتنظيم عمل الجيش، ووضعه في إطاره الطبيعي كجيش يحمي ولا يحكم. حيث أُلحقت قيادات القوات البرّية والبحريّة والجوّية بوزارة الدفاع، وأُلحقت القيادة العامة لقوات الدرك وقيادة خفر السواحل بوزارة الداخلية.

 

انشغال الجيش بحماية البلاد

وربما كان من أهم القرارات التي اتخذها الرئيس أردوغان بعد الانقلاب فيما يخص الجيش هي توجيهه لحماية الأمن القومي التركي بشكل حقيقي، والانشغال بمهامه الحربية الأصيلة. فقد زادت عمليات الجيش ضد التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم بي كا كا، الذي يناصب أنقرة العداء منذ عقود، وبتلقى دعمًا أمريكيًا سخيًا.

وشنت القوات المسلحة التركية عملية درع الفرات في أغسطس/آب 2016، بعد أسابيع من التغلب على الانقلابيين داخل البلاد. حيث هدفت العملية إلى تأمين الحدود الجنوبية للبلاد مع سوريا، ومنع سيطرة تنظيم PKK/PYD الإرهابي على المنطقة، واستطاعت القوات التركية تحرير مناطق كالباب وجرابلس في شمالي سوريا من التنظيمات الإرهابية. ثم بعد ذلك شن الجيش التركي عملية غصن الزيتون التي حررت مدينة عفرين من محاربي بي كا كا، ونبع السلام التي أفشلت مخطط إقامة كيان انفصالي على حدود تركيا الجنوبية.

ومؤخرًا، وبالتحديد في منتصف يونيو/حزيران من العام 2020، أطلقت القوات المسلحة عملية “المخلب النسر” ثم “المخلب النمر” في شمال العراق لتحقيق ذات الهدف، وهو القضاء على تنظيم بي كا كا، الذي تصنفه أنقرة كتنظيم إرهابي، وفروعه على الحدود التركية-السورية والحدود التركية-العراقية.

وكان من الضروري شن مثل هذه العمليات لأكثر من سبب، منها بالطبع حماية الأمن القومي التركي، ومنع تقسيم تركيا وسوريا والعراق. لكن الهدف الذي لا يقل أهمية هو أن هذه العمليات أعادت ثقة الجيش التركي في نفسه، وحسنت من صورته التي شوهها الانقلابيون.

وحاليًا، يبدو أن هناك استقرارًا في العلاقة بين الحكومة المدنية التركية والجيش، كما أن هناك تناغمًا في الملفات المهمة، خصوصًا تلك المتعلقة بالسياسات الخارجية لتركيا، كقضية شرق المتوسط، وليبيا، وسوريا، والعراق، وأذربيجان. ورغم ذلك، يرى مراقبون أنه رغم نجاح سياسة الرئيس أردوغان حتى الآن في التعامل مع الجيش، إلا أن ذلك يتطلب استمرار الحذر، وعمل دستور جديد للبلاد يكتبه مدنيون، وهذا بالفعل ما شرعت الحكومة التركية فيه مؤخرًا.