تغير شكل الدولة التركية كثيرًا بعد أن نجح الشعب التركي وحكومته المنتخبة من التغلب على الانقلابيين الذين هاجموا إرادة الشعب في 15 يوليو/ تموز 2016، وحاولوا الانقلاب على اختياراته، وقتل الرئيس المنتخب، رجب طيب أردوغان. وبجانب التغييرات العسكرية الواضحة على بنية الجيش التركي، شملت هذه التغييرات المجالات السياسية والاقتصادية كذلك.

وقد يكون التغير الأبرز إذا ما تحدثنا عن المجال السياسي هو تحول نظام الحكم في الدولة من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي. ففي عام 2017، أجري استفتاء دستوري، نقل الدولة من النظام البرلماني، إلى النظام الرئاسي، فتضمن إلغاء منصب رئيس الوزراء، وتولي الرئيس صلاحيات تنفيذية، وقيادة الجيش، وإعطائه الحق في تعيين نوابه والوزراء وإقالتهم، والحق في إصدار مراسيم في مواضيع تتعلق بالسلطة التنفيذية، وتعيين نائب له أو أكثر، وإعلان حالة الطوارئ في حال توفر الشروط المحددة في القانون، وإعداد الميزانية العامة للدولة.

 

إنجازات النظام الرئاسي

تحول الدولة التركية إلى النظام الرئاسي في أعقاب الانقلاب الفاشل أعطى للحكومة التركية مرونة أكبر في التعامل مع ملفات الدولة. حيث باتت القيادة التركية أقدر على اتخاذ قرارات سريعة وفعالة، دون أن تتعطل هذه الملفات كثيرًا عند البرلمان. من ذلك مثلًا قرار الرئيس أردوغان بالتدخل لمساعدة حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، والتصدي لعدوان مجرم الحرب خليفة حفتر، وقراره السريع بإرسال قوات تركية إلى قطر، بعيد الحصار الخليجي عليها، وتوارد الأنباء عن نية نظامي الإمارات والسعودية لاحتلالها عسكريًا.

كذلك، جاءت القرارات الرئاسية بشن عمليات عسكرية ضد تنظيم بي كا كا في سوريا والعراق بسرعة وفعالية كبيرة، هذا بالإضافة إلى التعاون العسكري التركي مع أذربيجان، والذي ساهم في عودة إقليم قرة باغ الأذري، الذي احتلته أرمينيا لعقود.

ورغم أن كل هذه القرارات الجوهرية مرت على البرلمان التركي، إلا أنها لم تكن لتتخذ بهذه السرعة المطلوبة لو كان النظام برلمانيًا. لذلك يمكن القول إن الانقلاب ساهم في إعادة تشكيل المؤسسات التركية، وطرق اتخاذ القرار فيها.

 

التأكيد على زعامة أردوغان

ويعد أردوغان أحد أكثر السياسيين تأثيرًا في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة، حيث قاد البلاد لنهضة شهد لها العالم أجمع في فترة زمنية محدودة. لكن لعب الانقلاب دورًا مهمًا في تحويل أردوغان من رئيس وزراء ناجح إلى زعيم تركي تاريخي، أدار الدولة ونهض بها، وتصدى للانقلابيين، وحيّد الجيش التركي عن التدخل في السياسة، وأجبر الانقلابيين على احترام الإرادة الشعبية.

وقد ظهر ذلك، في يونيو/حزيران العام 2018، بنيل أردوغان ولاية رئاسية ثانية، بعد فوزه عام 2014 في انتخابات الرئاسة التركية، في ما اعتبر تصويتًا شعبيًا جديدًا على منحه الثقة للاستمرار في سدة الحكم. وكان من اللافت أن أردوغان نجح في الانتخابات من الجولة الأولى وبفارق واسع عن أقرب منافسيه، محرم إنجه، المرشح الرئاسي عن حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة التركية. الأمر الذي يؤكد صعود شعبية الرئيس أردوغان بعد الانقلاب الفاشل في 2016.

 

إنجازات اقتصادية بعد الانقلاب

وخلال الفترة الأخيرة، توالت اكتشافات الغاز التي تعلنها الحكومة التركية، ففي 21 أغسطس/ آب 2020، أعلن الرئيس أردوغان اكتشاف أكبر حقل للغاز في تاريخ البلاد في موقع “تونا1” بحقل صقاريا، بالبحر الأسود، باحتياطي 320 مليار متر مكعب، ثم أعلن لاحقًا ارتفاع التقديرات بعد اكتشاف 85 مليار متر مكعب إضافي. ومطلع يونيو/ حزيران، أعلن أردوغان أيضًا عن ارتفاع حجم الغاز الطبيعي المكتشف في المنطقة، إلى 540 مليار متر مكعب، وذلك عقب اكتشاف 135 مليار متر مكعب إضافي في موقع “أماسرا-1” بحقل صقاريا.

والمهم في هذه الاكتشافات هي أنها إنجازات تركية خالصة، حيث تعتمد تركيا على نفسها في التنقيب عن الغاز والنفط في مياهها الإقليمية، بعكس كل الدول المطلة على شرق البحر المتوسط، والتي تتعاقد مع شركات دولية للقيام بمهام التنقيب، لعدم امتلاك هذه الدول سفنًا مناسبة لإجراء هذه العمليات.

 

ارتفاع احتياطي البنك المركزي

كذلك، تزايدت الصادرات التركية لتسجل عام 2016 نحو 142 مليار دولار وزادت عام 2017 عن 160 مليارًا،  ونحو 170 مليارًا في العام 2018، وفي العام 2019، سجلت 180 مليار دولار، وارتفع احتياطي البنك المركزي التركي من العملات الأجنبية، ليتجاوز 93 مليار دولار، وتخطى حجم الاستثمارات الأجنبية في تركيا 201 مليار دولار، حسب بيانات رسمية.

وعلى الجانب السياحي، وقبل تفشي جائحة كورونا، اجتذبت تركيا 52 مليون سائح العام 2019، وتخطط لاستقطاب 75 مليون سائح و65 مليار دولار من إيرادات السياحة، خلال الأعوام المقبلة. كما تطمح تركيا إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي إلى تريليوني دولار، وأن يرتفع معدل دخل الفرد إلى 30 ألف دولار سنويًا.

ورغم الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم أجمع، بعد ظهور فيروس كورونا،  وبالطبع تركيا جزء منه، فإن صندوق النقد الدولي يؤكد أن لدى تركيا قوة اقتصادية وإنتاجًا قادرين على تجاوز أزمة “كورونا” بأقل الخسائر، كونها ستكون الأسرع تعافيًا وستعاود السعي لحلمها بدخول نادي العشرة الكبار في العالم.

وفي الفترة الأخيرة، أعلن الرئيس أردوغان أن إدارته بصدد إجراء إصلاحات اقتصادية تهدف لكسر “مثلث الشر” المتمثل في أسعار الفائدة والتضخم وأسعار الصرف، حيث وصف أردوغان أسعار الفائدة بأنها “أصل كل الشرور” ويرى أن أسعار الفائدة المرتفعة تذكي التضخم.

لذلك يمكن القول إن الانقلاب الفاشل في عام 2016، أعطى الحكومة التركية مساحة أكبر للتعامل مع الملفات السياسية والاقتصادية الكبرى في البلاد، وهذا مكنها من تحقيق الانجازات بوتيرة أسرع، وما زال أمام حكومة أردوغان فرصة حتى 2023، موعد إجراء الانتخابات، لتؤكد للشعب قدرتها على قيادته لفترة أخرى.