يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يترسخ في باله حين كان تلميذا في المدرسة الكنيسية سوى حكايات الحرب الصليبية التي شنتها أوروبا قبل نحو قرن، ضد المسلمين في الشرق، بشعارات دينية متعصبة، قادتها الكنيسة الفرنسية والبابا المعمد فيها، ليقرر ماكرون أن يعيد الكرة وينطلق في حملة صليبية جديدة بروح العصر الجديد وأدواته وشعاراته.
واخترع ماكرون شعار “النزعة الانفصالية الإسلامية” ليبدأ بها حربه ضد المسلمين الفرنسيين المواطنين والمهاجرين على حد سواء، في بلد متشبع بالعنصرية حتى الثمالة، رغم ادعاءاته الكاذبة المتكررة حول علمانية البلاد التي لا يزال كل شيئ فيها خاضعا لسلطة الكنيسة الروحية حتى رئيس البلاد الذي درس في مدارسها الدينية المغلقة حتى المرحلة الثانوية.
ماكرون ألبس عنصريته رداء القانونية الوهمية بتقديمها عبر نافذة البرلمان الفرنسي الذي يسيطر عليه حزبه المتطرف ضد المسلمين، فيما يتوحد اليمين واليسار للمرة الأولى في تاريخ فرنسا ضد عدو متوهم واحد، وهو المسلمين الفرنسيين، الذين خصهم مشروع القانون بالتقييد والاستهداف.
وأمام تحيز اسم القانون المقترح والمسمى بـ “قانون مقاومة النزعة الانفصالية”، بشكل صريح ضد المسلمين، اضطر ماكرون ووزير داخليته المتطرف والمتهم بالاغتصاب من قِبل جمعيات حقوقية نسوية، جيرالد دارمانان، لتعديل اسمه ليأخذ طابعا عاما، قبل الشروع في التصويت عليه بالبرلمان الذي يتوق لأن يوافق عليه على أي حال.
وفي مطلع أكتوبر /تشرين الأول من العام الماضي، بدأ التعريف بمشروع القانون من قِبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحت اسم “مكافحة الإسلام الانفصالي”، ثم جرى تغيير اسم المشروع لاحقا إلى مبادئ تعزيز احترام قيم الجمهورية نتيجة اعتراضات حقوقية وسياسية دولية كان أبرزها من الجانب التركي الذي قدم احتجاجا رسميا على استهداف المسلمين في البلاد.
وكما كان متوقعا، صوت البرلمان الفرنسي، الجمعة الماضية، على مشروع القانون المثير للجدل “ضد النزعة الانفصالية للمسلمين في فرنسا”، الذي يستهدف “الجالية المسلمة الأكبر في أوروبا” وتم تبنيه بشكل نهائي، بل وبدأ العمل بمقتضاه أيضا.
وبعد 7 أشهر من أخذ ورد بين البرلمان ومجلس الشيوخ لتعديل صيغته لتكون أكثر لياقة ليس إلا، صادق النواب على نص “احترام مبادئ الجمهورية” المقدم كعلاج لما يعتقد أنه “سيطرة الإسلاميين” على المجتمع، بأغلبية 49 صوتا مع معارضة 19 وامتناع 5 عن التصويت.
وكانت جلسة التصديق مسرحية بامتياز، حيث منع رئيس اللجنة الخاصة فرانسوا دو روغي، الذي ينتمى لحزب الرئيس ماكرون، أي اعتراض أو مناقشة حتى من ابن حزبه اليساري جان لوك ميلانشون الذي رفض مشروع القانون “بدعوى معاداة الإسلام” لكن فرانسوا دو روغي قاطعه ورد بأن نص القانون “ذا نطاق عام ولا يتعامل مع العلاقات مع دين واحد”، وأنهى سريعا كلمة جان لوك ميلانشون.
المشروع -الذي بات بعد هذا التصديق قانونا نهائيا- لم يكن خافيا على أحد أنه يستهدف المسلمين في البلاد، ويكاد يفرض قيودا على كافة مناحي حياتهم، ويسعى لإظهار بعض الأمور التي تقع بشكل نادر كأنها مشكلة مزمنة، كما ينص على فرض رقابة على المساجد والجمعيات المسؤولة عن إدارتها، ومراقبة تمويل المنظمات المدنية التابعة للمسلمين، ويفرض قيودا على حرية تعليم الأسر أطفالها في المنازل، فضلا عن حظر ارتداء الحجاب في مؤسسات التعليم قبل الجامعي.
وفي تطبيق سريع للقانون، أقالت وزارة الداخلية الفرنسية إمام مسجد في إقليم لوار وسط البلاد بدعوى تلاوته آيات قرآنية وحديثا خلال خطبة عيد الأضحى “منافية لقيم الجمهورية”، بعد يوم من تبني البرلمان القانون.
قرار إقالة مادي أحمدا، إمام مسجد سانت شاموند الكبير، جاء بناء على طلب وزير الداخلية جيرالد دارمانان الذي طلب إقالة إمام المسجد بعد مشاركة إيزابيل سربلي، عضو المجلس البلدي عن حزب الجمهوريين، مقطع فيديو للخطبة عبر الإنترنت، بذريعة تلاوته في خطبته حديثا نبويا وآيات من سورة الأحزاب تخاطب نساء النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وطلب دارمانان من مكتب حاكم لوار فصل الإمام والتأكد من عدم تجديد تصريح إقامته، لأنه يجد هذه العبارات غير مقبولة و”ضد المساواة بين الجنسين”.
ولم يكن مادي أحمدا، إمام مسجد سانت شاموند الكبير هو الوحيد الذي تم استهدافه سريعا بالقانون، إذ طلب وزير الداخلية، في اليوم نفسه، إقالة إمام آخر يدعى مهدي، وطلب وزير الداخلية من سلطات الإقليم التدخل وتعليق أنشطة المسجد إذا تكررت خطبة مماثلة، بعد أن انتقد طريقة ارتداء بعض النساء المسلمات لملابسهن في خطبة ألقاها في 4 يونيو /حزيران في مسجد جينيفيلييه، أحد مساجد إقليم أوت دو سين.
وتم فصل الإمام، الأسبوع الماضي، بعد اجتماع لسلطات محافظة أوت دو سين، وأعلن وزير الداخلية الفرنسي، أمس، على تويتر أنه بناء على طلبه تم فصل الإمامين اللذين قدما خطبا “غير مقبولة” في أوت دو سين ولوار. وقال “سنواجه بلا كلل أولئك الذين يعارضون قواعد وقيم الجمهورية”.
ولا يُتوقع أن يكون مادي أحمدا، إمام مسجد سانت شاموند الكبير، ولا الإمام مهدي في مسجد جينيفيلييه، أحد مساجد إقليم أوت دو سين، آخر الضحايا، بل مجرد افتتاح لسلسة من الخطوات المعادية للإسلام باستخدام الأدوات الجديدة التي يسمح بها قانون “تعزيز احترام مبادئ الجمهورية”، في بلد يعد فيها مجرد انتقاد جرائم العدو الصهيوني معاداة للسامية توجب ترحيل قائلها أو حبسه على أقل تقدير!
اضف تعليقا