منذ سيطرة حركة طالبان الأفغانية على البلاد قبل أيام، واتجهت أنظار العالم قاطبة إلى الأرض التي بقيت عصية على الاحتلالات عبر تاريخها، ونجحت في كل مرة بطرد المحتل وهزيمته شر هزيمة، بل ودائما ما كان انتصارها نهاية حقبة بذوغ شمس المحتل عبر تاريخه، سواء مع المغول أو روس الاتحاد السوفياتي أو الاحتلال الأميركي المنهزم أخيرا.

ومع سيطرة الحركة طالبان على العاصمة كابول بعد هروب الرئيس السابق المُعين أمريكيا، أشرف غني، في منتصف أغسطس الجاري، بزغت شمس مرحلة جديدة بمسيرة الحركة، وتحولت معها طالبان من جماعة مقاتلة مسلحة إلى حركة شبه سياسية من المتوقع أن تستلم زمام الحكم في أفغانستان التي دمرتها الحرب وأنهكتها الانقسامات الداخلية.

وأمام هذا التحول، بات واضحا أن ثمة معطيات تبرز أنه لا شك أن هناك فرقا كبيرا بين الجماعة المقاتلة التي لها أهداف محددة وتركز نشاطها ونضالها على القتال وبين الحركة التي سيطرت على البلاد وباتت أمام مسؤوليات إدارة شؤون الدولة كلها وينتظر المواطنون منها الحكم الراشد وتوفير ظروف حياة كريمة.

نائب زعيم طالبان للشؤون السياسية الملا عبد الغني برادر، أكد في كلمته عقب دخول الحركة العاصمة، أنه هناك عدة تحديات تواجه حركة طالبان بعد سيطرتها على الأراضي الأفغانية، وبدا واضحا أنه قد “بدأ الاختبار الحقيقي للحركة وقدراتها” على حد وصفه.

وفي مقدمة تلك الملفات العاجلة تأتي قضية المصالحة الوطنية، حيث بدأت الحركة مباشرة بعد سيطرتها على العاصمة مشروع المصالحة الوطنية والتفاهم مع الخصوم والمعارضين لبناء الدولة والقضاء على احتمال نشوب الحرب والتمرد من جديد وقيادة البلاد نحو الاستقرار السياسي.

ثم يأتي الملف الأمني في المقام نفسه، حيث استتباب الأمن في كافة أرجاء البلاد، خاصة العاصمة كابل، لأن الأمن أهم أولوية بالنسبة للمواطنين الأفغان وقد حرموا منه طوال 4 عقود ماضية، ولا شك أن نجاح حركة طالبان في توفير الأمن للمواطنين سيكون مفتاحا لنجاحات أخرى يؤدي إلى ترسيخ أقدام الحركة في حكم أفغانستان وزيادة ثقة الشعب بها.

أما ثالث الملفات التي يقع على كاهل طالبان التعامل معها فهو الحكم الانتقالي، عبر إقامة حكومة تدير البلاد في المرحلة الانتقالية وتتمتع بقبول الشعب الأفغاني وتمثل المجتمع الأفغاني بتنوعه العرقي والثقافي والجغرافي والمذهبي وتشتمل على أهل الاختصاص والكفاءات ولا تكون الوظائف فيها حكرا على أعضاء وعناصر حركة طالبان.

أما أكثر المخاضات إشكالية، فهو ملف الدستور الأفغاني، إذ يتوجب على الحركة تهيئة الظروف والمناخ المناسبين لتدوين دستور لأفغانستان يشكل الإطار المناسب لبناء الدولة وقيام نظام سياسي حديث ودائم للبلاد يقود أفغانستان نحو الاستقرار السياسي ويغلق باب الفوضى وعدم الاستقرار في بلد أنهكته الحروب الأهلية والغزو الأجنبي المتكرر لفترة تزيد على 4 عقود.

لكن تلك الملفات سوف تصطدم لا شك بواحدة من أعقد التحديثات بالدولة الأفغانية الجديدة، إذ إن المجتمع بات يشهد تغيرات لافتة نتيجة خضوعه عشرين عاما لاحتلال استهدف بكل الطرق تغيير الهوية الثقافية والدينية للشعب الأفغاني، فبات اليوم لزاما على الحركة التعامل المناسب والحذر مع الواقع الجديد الذي ظهر في أفغانستان خلال السنوات الـ20 الماضية، حيث إن المجتمع الأفغاني اليوم يختلف عما كان عليه الحال خلال حقبة حكم طالبان الأول في التسعينيات من القرن الماضي.

أما ملف العلاقات الدولية، فهو بلا شك من أبرز التحديات أمام حكومة طالبان هو كيفية التعامل مع ملف العلاقات مع الدول والمنظمات الدولية بصورة توطد الثقة وتبني الجسور ولا تترك مجالا لدفع أفغانستان إلى العزلة والقطيعة مع العالم مثل الذي حصل في أثناء الحكم السابق لحركة طالبان، حيث لم تعترف بحكومتها إلا 3 دول هي باكستان والسعودية والإمارات.

وفي ملف الإعلام وحرية التعبير، يبدو أن الحركة تسعى للتعامل مع وسائل الإعلام وحريتها وحرية التعبير كتحد يواجه حكمها، فلم يعد الأمر كما كان في أيام الحكم الأول للحركة، حيث كانت في كل البلاد إذاعة واحدة حكومية، وقد غيرت طالبان اسمها من إذاعة أفغانستان إلى صوت الشريعة وأغلقت التلفزيون الرسمي الوحيد ومنعت النساء من العمل في الوظائف الرسمية، بما فيها وزارة الإعلام والإذاعة.

واليوم وبعد السيطرة الجديدة لطالبان فإن الإعلام في أفغانستان لم يعد كما كان، فهناك أكثر من 100 قناة تلفزيونية ما بين فضائية ومحلية، وأكثر من 150 محطة إذاعية والعشرات من الصحف والمجلات، و8 وكالات أنباء ومئات المنصات ومواقع الإنترنت، ويتجاوز عدد العاملين في قطاع الإعلام الأفغاني اليوم 10 آلاف شخص (نسبة كبيرة منهم من النساء)، كما يبلغ عدد المستخدمين للهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي الملايين.

ومن الصعب أمام هذا الواقع لحكومة طالبان منع أو فرض رقابة مشددة على وسائل الإعلام غير الحكومية، ولعل زعامة حركة طالبان تدرك جيدا تبعات التعرض لحرية الإعلام ووضع قيود صارمة على العاملين في هذا القطاع الذي شهد تطورا وتقدما كبيرا خلال السنوات الـ20 الماضية.

وأمام هذه الملفات وغيرها كزراعة المخدرات والنهوض بالاقتصاد، سيكون على الحكومة المقبلة في أفغانستان أن تتعامل معها بحذر وروية، سواء أكانت تقود هذه الحكومة حركة طالبان أو غيرها من الحكومات الائتلافية الممكنة، ولا شك أن مواجهة تلك التحديات تتطلب درجة عالية من المعرفة والخبرة والدراية والحنكة، إضافة إلى رعاية التوازن بين الخلفية الدينية والفكرية للحركة وبين مقتضيات الواقع الداخلي والدولي.