انتهى الدرس بأسرع مما توقع مسعود بارزاني، بعدما طرب الكثيرون بنبرة صوته المتحدية وهو يعلن نتائج الاستفتاء على انفصال كردستان عن العراق، غير مبال بمعادلات دولية وتفاعلات إقليمية متسارعة، وحتى تباين داخلي وسط الأكراد حيال كل ما حدث، وهو ما ظهر أثره في عدم مقاومة قوات البشمركة التدخل العسكري الأخير لقوات الحكومة العراقية.

مراقبون اعتبروا أن “بيشمركة طالباني” هم من يقف وراء قرار عدم المقاومة، باصطفافهم خارج المعادلة، علاوة على غياب الدعم الأمريكي عمدا، والأحداث أثبتت أن الميليشيات الكردية تكون منزوعة الأنياب دون دعم واشنطن.

عقاب بارزاني

لم تنضج الطبخة جيدا، هذا ما فهمه “بارزاني” متأخرا، فالأوضاع كانت أعقد مما تصور، بالتأكيد لم يستمع لمن نصحه بتأجيل خطوة التحدي هذه، كونها تأتي في وقت حرج بإقليم مضطرب وتغير كبير في خريطة التحالفات الإقليمية، أبرزها أن خصوم الأكراد التاريخيين (الأتراك) باتوا على وفاق مع أصحاب السلطة في العراق (الإيرانيين) أكثر من أي وقت مضى، وأن الطرفين مصممان على عدم السماح للكرد بالتحدي الآن.

حاول “بارزاني” ترميم خسائر ما حدث بأقل كلفة، فخرج في 20 سبتمبر الماضي، ليتحدث عن  إمكان العدول عن إجراء استفتاء في الإقليم، معلنا أنه تسلم من المجتمع الدولي مقترحات جديدة بديلة “أفضل مما كان سابقا”..

لكن أنقرة وطهران وبغداد لم تقبل بالتلميح، وها هو الجيش العراقي يدخل كركوك ويسيطر على مفاصلها، ويرفع أعلام بغداد فوق حقول النفط المهمة.

حقول نفط “كركوك”

 

الضغط للتفاوض

وييدو أن قرارا إقليميا تم اتخاذه بين العراق وإيران وتركيا بالضغط على الأكراد لمدى بعيد، لسببين:

الأول: حتى يكون الرد على خطوة الاستفتاء المفاجئة والسريعة حاسما، ودافعا لـ “البارزاني” للتفكير مليا قبل إمكانية تكرارها.

الثاني: حتى يكون الموقف التفاوضي مع الأكراد قويا لصالح بغداد وحلفائها الجدد، فالجميع يعرف أن واشنطن لن تدع مجالا لتحول المصادمات إلى اشتباكات أو حرب، وبالتالي من المهم تحسين الموقف الميدان قبل التفاوض.

ملامح هذا التصعيد والضغط العراقي تمثل في تطور له دلالاته المتعددة، ففي صباح الثلاثاء 17 أكتوبر الجاري، دخلت القوات العراقية مدينة سنجار وطردت منها قوات البيشمركة، والذين كانوا قد استردوها من سيطرة تنظيم “الدولة” في 2014، وهو ما يعني أن بغداد تحاول معاقبة الأكراد بالرجوع إلى ما قبل أزمة داعش في 2014.

إلى هنا، والحكمة تقتضي عدم التصعيد أكثر، حتى لا تتحول الأمور من رسالة قوية وجهتها بغداد، مستغلة دعم تركي وإيراني وصمت دولي، إلى ملحمة قد يساق لها الأكراد سوقا، وهنا ستتغير الكثير من المعادلات إقليميا ودوليا.

واجبات الحكمة

وبالتوازي مع بدء المفاوضات، سيكون من الأفضل أن تعيد الحكومة العراقية التأكيد على أن كركوك ستكون منطقة منزوعة السلاح، بخروج الجيش العراقي منها، وتسليم أمن المدينة لقوى أمن وشرطة مدنية محلية مشتركة بين الأكراد والعرب والتركمان، وتسليم أمن حقول النفط إلى شرطة حماية النفط، ولكن بالطبع بعد الوصول إلى تفاهمات مرضية مع الأكراد.

من المهم أيضا عدم العبث بالتركيبة الديمرغرافية هناك، لا سيما أن الحشد الشعبي مشارك في الحملة على كركوك، وهو معروف بعشقه للعبث بهذه التركيبات الحساسة، وبالتأكيد فإن الحفاظ على توازن القوى في كركوك ومحطيها هو أمر مهم، لضمان عدم تصاعد موجات عنف كردية ضد القوات الفيدرالية العراقية، وتعقيد الأمور.

مبررات واشنطن

وفي تقدير المحللين، فإن صمت واشنطن حتى الآن كان في سياق قرارها بتوجيه رسالة عقابية لـ “بارزاني” على تسرع طموحه، وتجاهل نصائح واشنطن بتأجيل الاستفتاء، لكن في نفس الوقت، لن يسمح الأمريكيون بالمزيد، للأسباب الآتية:

1- المزيد من الضغط على بارزاني سيتركه ضعيفاً ومكسوراً وغير ذي فعالية، وهذا ما لا تريده واشنطن في إطار التحليل القائل بأن الدولة الكردية والتلويح الدائم بها شوكة تضعها واشنطن في حلق تركيا وقت ما تريد..

2- ما سبق سيؤدي أيضا إلى تناقص نفوذ حيدر العبادي، رئيس الحكومة العراقية، والذي يرغب بالابتعاد عن الاستراتيجية الإيرانية في العراق ويطرح نفسه كشخصية موحدة للبلاد…

ومن المعروف أن الأكراد طرف أساسي للحد من السيطرة المطلقة لشيعة العراق الموالين لإيران، وخروجهم من العملية السياسية لن يعني سوى صعود المالكي الذي تربطه علاقات وطيدة مع إيران.

3- التمادي في عقاب الأكراد ومحاولة إضعاف بارزاني أكثر قد يفتح الطريق لصراع عربي- كردي عنيف، وستتحول المنطقة إلى قبلة لأكراد سوريا وتركيا الراغبين منهم بدولة مستقلة.

«مقالب» إيران

من واقع ما سبق، تشير توقعات إلى أن إيران هي صاحبة المصلحة الأكبر في تصعيد الأمور إلى حدود حرجة في تلك المنطقة، أما الأمريكيون، فقد يتفق الأتراك معهم مجددا على أهمية التهدئة.

هنا قد يعود الاختلاف مجددا بين أنقرة وطهران، فالأتراك يعلمون جيدا أن تصاعد الأمور في كردستان ومحيطها قد يؤدي إلى تدخل أمريكي على قواعد جديدة لن تعني إيران كثيرا بقدر ما ستضر تركيا، حيث يتوقع، في حالة تفاقم الأمور أن يصبح سيناريو “الطلاق الودي” بين الأكراد وبغداد قائما برعاية أمريكية هذه المرة، أو ربما “حكم مشترك” على كركوك، مع استقلال مدن الإقليم الثلاث، وهو ما يضر إيران أيضا، لكن تركيا ضررها أكبر.

من ناحية أخرى، يعلم الأتراك جيدا أن ازدهار جنوب شرق تركيا الاقتصادي قائم بجزء أساسي في التجارة مع الإقليم الذي يكسب من ضخ النفط حوالي 8 مليار دولار سنويا، بينما تكسب تركيا نحو مليار دولار، صحيح أن الطرفين يعانيان الآن من أزمة ثقة، لكن أكبر دليل على تعقل الأتراك هو عدم تنفيذ أردوغان تهديداته حتى الآن بوقف خط أنابيب النفط، والتي تنقل بترول شمال العراق إلى تركيا والعالم، عبر ميناء جيهان التركي.

المرحلة السهلة مرت، والقادم أشد صعوبة، وسيكون على تركيا محاولة لجم إيران، وديا بالطبع، وكذلك لجم “العبادي” المنتشي بالنصر السهل الذي تحقق الساعات الماضية.

سيكون أيضا على واشنطن التدخل لضبط الأمور، إذا لم تكن قد قررت بالفعل التخلي عن كردستان، وهو أمر مستبعد في هذا التوقيت.. الأكراد الآن باتوا كأعواد كبريت جاهزة للاشتعال بجوار أنابيب نفط كركوك المتخمة، وبالتالي لا مجال للتهور.