إذا كان ثمة فرصة لتلخيص تاريخ فرنسا الحديثة، فإننا لن نجد أوضح من مصطلح (الاتكاء) لوصف علاقتها بالقوى الأوروبية المحيطة التي تتسلق فرنسا على نجاحاتها لتقدم نفسها بوصفها قوة عظمى، بينما يضطر الحلفاء لتمرير تفوقها المزعوم لاعتبارات دينية وجغرافية.
ففي الحرب العالمية الثانية، خرج الحلفاء منتصرون، لكن الهزيمة الوحيدة القاسية التي عرفوها كانت في فرنسا، إذا احتل الألمان باريس في عشرة أيام فقط، ودخل الزعيم النازي هتلر العاصمة الفرنسية بكل سهولة ليلتقط صورته الأشهر أمام برج إيفيل، والتي يعتبرها النازيون رمز انتصاراتهم قبل تعرضهم للهزيمة.
لكن سرعان ما ألصقت فرنسا نفسها بمحور الحلفاء ليساعدوها في التخلص من التغول الألماني، ثم لتخرج فجأة معلنة نفسها ضمن حلف المنتصرين، تاركة سؤالا بديهيا عن أي (أمارة) لهذا الانتصار، الذي تزعمه العاصمة الفرنسية وما زالت تحتفل به حتى اليوم!
هذه المقدمة ليست بعيدة عن الواقع الفرنسي اليوم، إذ تحاول فرنسا استعادة الكبرياء الإمبراطوري الضائع منذ الحرب العالمية الثانية، لكن الأمر لا يزال يستعصي عليها، لا سيما وأن هذا الأسبوع كان حافلاً بالدراما بعد إلغاء أستراليا لصفقة الغواصات معها، ورد فعلها الساخط على تجاوز الولايات المتحدة لها.
غير أن هذه الأحداث كلها ترمز إلى معضلة لطالما عانتها الدولة الفرنسية، التي ما زالت تزعم أنها قوة عظمى، وهي كما تقول صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية: كيفية البرهنة على كونها “قوة مستقلة”، من دون أن تخسر نقطة قوتها الوحيدة، وهي الاعتماد على الحلفاء.
تقول الصحيفة الأمريكية إن تاريخ فرنسا الحديث كله عبارة عن حرب هوياتية للتوفيق بين طرفي هذه المعضلة: الاستقلال من جهةٍ، والاعتماد على الحلفاء من جهة أخرى، لكن الأكيد هو أن فرنسا في كل مرة تختار أن تتخلى عن كرامتها لصالح الحفاظ على ورقتها الرابحة الوحيدة، وهي الاعتماد على نحاعة الحلفاء وإخلاصهم للصدفة الجغرافية التي جعلت من فرنسا دولة في القطاع الأوروبي الأبيض.
وجاءت صفقة الغواصات الفرنسية مع أستراليا في محاولة مفضوحة من فرنسا لإبراز نفسها بوصفها قوة مستقلة ومنفردة بقرارها في النهاية، وفي الوقت نفسه الاصطفاف إلى جانب الحلفاء الذين تعرف باريس أنها لا تستطيع الاستغناء عن مساعدتهم لها. لكن خسارة الصفقة سلَّطت الضوء على صعوبة الجمع بين الاثنين، وكذلك رد فعل فرنسا.
كان الهدف من استدعاء فرنسا سفيرها في واشنطن إظهارَ أنها لا تخشى الوقوف حتى في وجه الحلفاء. لكن في الوقت نفسه، وبينما كانت تسعى للحصول على دعم أوروبي ضد “الخيانة الأمريكية المتصورة”، كشفت باريس بوضوح عن شعورها بأنها مضطرة للبحث دائماً عن دعم خارجي، حتى في هذا الشأن.
وبالعودة إلى التاريخ، تركت الحرب العالمية الثانية أوروبا منقسمةً بين القوات الأمريكية والسوفيتية، وحازت واشنطن القدرة على فرض ضغوطها على حلفائها الذين باتوا بعد الحرب حلفاء صغاراً في تحالف كبير، بل إنها كانت تحتل بعض هذه الدول احتلالاً عسكرياً مباشراً. كلُّ ذلك بثَّ لدى الفرنسيين قناعة بأن قبول ذلك المستقبل الذي تصبح فيه فرنسا عضواً بين عديدٍ من الأعضاء، مثل بريطانيا وألمانيا الغربية، في تحالف بقيادة الولايات المتحدة، لا يعني شيئاً سوى الخضوع للولايات المتحدة.
ثم جاء العصر النووي، وتهديد القدرة على الإبادة الشاملة، ليُزيد الفرنسيين قناعةً بأنه يتعين عليهم تأمين طريقهم الخاص في هذا العالم، حتى لو أزعج ذلك أحياناً الحلفاء الذين يعرف الفرنسيون أنهم في حاجة إلى مساعدتهم للحفاظ على ما لديهم من استقلال.
وهكذا، سعى شارل ديغول، الذي تولى الرئاسة من عام 1959 إلى عام 1969، للحصول على مساعدة واشنطن في توحيد أوروبا الغربية ضد السوفيت، لكنه في الوقت نفسه عمل أيضاً على الانتقاص من نفوذ الولايات المتحدة عند كل منعطف، والدفع بإبراز القيادة الفرنسية بدلاً عنها.
وفي سياق ذلك، أشرف ديغول على تحويل فرنسا إلى قوة نووية، وطردَ القوات الأمريكية من هناك، وأعلن انسحابه من الناتو، بل وحاول إقناع ألمانيا الغربية بفك روابطها مع هذا التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.
لكن على مستوى الواقع العملي، وإن كان الارتكان الفرنسي إلى القوة النووية موقفاً “وطنياً” مصمماً لردع السوفيت دون مساعدة خارجية، وصُمِّمت الاستراتيجية الخاصة بالضربات النووية الفرنسية بحيث تكون داعمةً للتدخل الأمريكي المتوقع، إذا لزم الأمر.
لكن ومع انتهاء عصر المواجهات النووية، تحوَّلت فرنسا إلى أدوات أكثر عصرية. وبدأت تستند إلى مقعدها الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتقديم نفسها في هيئة الممثل الدبلوماسي للقوى الكبرى في العالم. فهي ترسل قوات حفظ السلام إلى مناطق الصراع العالمية، وتبيع أسلحة متطورة في الخارج.
وتقول نيويورك تايمز إن الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون سعى إلى اتباع نهجٍ أكثر تعاوناً مع غيره من النهج الذي اتبعه ديغول. ومع أنه كان أحد الداعمين للاتفاق التجاري، الذي أغضب الولايات المتحدة، ووقّعه الاتحاد الأوروبي مع الصين، فإنه حرص على التماشي مع الضغط الذي قادته الولايات المتحدة لاحتواء الصعود الصيني، ودعم الضغط من أجل ذلك داخل أوروبا، وعمل على تزويد البلدان ذات التفكير المماثل لهذا الاتجاه في الخارج بالأسلحة والمعدات التي ينتجها.
لكن ماكرون لم يكتف بذلك، بل أصر على تعميق هذا المسار المستقل، داعياً الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، إلى الاستقلال بتولي المهام العسكرية الإقليمية عن حلف الناتو الذي تهيمن عليه واشنطن. وتقول الصحيفة الأمريكية: “قد يبدو استدعاء السفير الفرنسي مجرد نوبة غضب دبلوماسية، لكن واقع الأمر أنها تتبع نفس الاستراتيجية الفرنسية طويلة الأمد التي كان يتبعها ديغول، وهي التشديد على المصالح المستقلة لفرنسا عن واشنطن وانتهاز الفرص للصراخ علناً في وجه الأمريكيين”.
وبشكل عام فإن سعى وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، إلى حشد ردود فعل أوسع، جاء بعدما قال لمحطة إخبارية فرنسية إن الدول الأوروبية يجب أن تتحد للدفاع عن مصالحها الجماعية، حتى من الأمريكيين. لكن ماكرون يكافح حتى الآن ليرد بصفعة أقوى على الأمريكيين، لكن هذه المهمة معقدة مثل دوافع المسار المستقل والطموحات الفرنسية العالمية التي تحركها في المقام الأول.
اضف تعليقا