بعد مقاطعة قاربت على عشر سنوات، أعادت زيارة وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد إلى العاصمة السورية دمشق التقارب بين الدول العربية مع النظام السوري. وقد بدت هذه الزيارة روتينية، حيث ناقش بن زايد مع بشار الأسد طرق لتطوير التعاون الثنائي في شتى المجالات، ولقد قام الأسد -الذي قلما حظي بمثل هذا التقارب العربي منذ حملته الدموية ضد الثوار- بشكر الإمارات على دعمها “في التغلب على التحديات السورية التي فرضتها الحرب”، فكانت دمشق في أمس الحاجة لتعزيز العلاقات مع دول الخليج الغنية بالنفط، لا سيما واقتصادها متدهور بسبب العقوبات الغربية والمقاطعة العربية.
بيد أن الزيارة التي كسرت عزلة المجرم بشار الأسد عربيًا لم تكن مفاجئة، ففي ٢٧ مارس/ آذار الماضي تلقى الأسد اتصالًا مباشرًا من ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، وكان هذا أول اتصال مباشر بين زعيم عربي وبين النظام السوري منذ عام ٢٠١١. بالإضافة إلى أن الإمارات تصدرت على مدار السنوات الماضية الدول التي بادرت لاحتواء دمشق، إذ تعتقد أبو ظبي أن الوقت حان لإخراج سوريا ونظامها من عزلتهما.
أبو ظبي والتطبيع مع الأسد
لقد بدأت المقاطعة الدبلوماسية العربية لنظام الأسد في عام الثورة ٢٠١١، حيث طُردت سوريا من الجامعة العربية، وقامت الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي بإصدار بيان مشترك، أدانت فيه القمع العنيف وطالبت بشار الأسد بوقف سفك الدماء، كما اتخذت تلك الدول طيلة السنوات الأولى للحرب الأهلية المزيد من الخطوات لعزل الأسد دبلوماسيًا، فأغلقت الإمارات سفارتها في دمشق عام ٢٠١٣ اقتداءً بباقي دول مجلس التعاون.
وبعد عقد من هذه الحرب، خرج بشار الأسد صامدًا بفضل دعم الروس والإيرانيين العسكري الذي حصر المعارضة في جيب بشمال غرب سوريا، فيما انقسمت البلاد بين منطقة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” المدعومة من الولايات المتحدة في الشرق، وشريط آخر شمالي رفيع تسيطر تركيا وحلفاؤها عليه، أما النظام فبات يفرض سيطرته على معظم الأراضي. وقد دفع هذا الوضع مؤخرًا بعض الدول إلى تغيير موقفهم وتطبيع العلاقات مع النظام السوري، فقد زار الرئيس السوداني السابق عمر البشير العاصمة السورية قبل عدة أيام من الإطاحة به عام ٢٠١٩، وظهرت الأردن أيضًا في مسيرة هذا التطبيع، فقد قام الأسد باتصاله الأول بالملك الأردني في سبتمبر/ أيلول الماضي، وذلك بعدما أعاد البلدان فتح المعبر الحدودي الرئيسي بينهما.
ثم بدأت دول الخليج بالظهور في مسيرة التطبيع مع النظام السوري، إذ أعادت البحرين فتح سفارتها في دمشق عام ٢٠١٩، ولحقت بها عمان بعد عام، أما الرياض فاتخذت قرارات التقارب عن بعد، حيث التقى رئيس الاستخبارات السعودية اللواء خالد الحميدان مع نظيره في دمشق، وكذلك بشار الأسد في مايو/ أيار الماضي، بالإضافة إلى ترأس وزير السياحة السوري رامي مارتيني وفد سوريا إلى الرياض، وذلك لحضور اجتماع لجنة الشرق الأوسط بمنظمة السياحة العالمية في مارس/ آذار الماضي.
في غضون ذلك، زادت أبو ظبي من تفاعلها الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي مع النظام السوري، وبدأ ذلك بإعادة فتح سفارتها في دمشق عام ٢٠١٨ للمرة الأولى منذ الثورة، وحينها قال أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، إن قرار العودة “إلى العمل السياسي والدبلوماسي في دمشق جاء نتيجة قراءة متأنية للتطورات، وإن إعادة تفعيل الدور العربي كان ضروريا بسبب التعدي الإيراني والتركي على سوريا”. بالإضافة إلى إعلان الخطوط الجوية السورية في يونيو/ حزيران الماضي عن استئناف رحلاتها المباشرة إلى دبي، كما قدمت أبو ظبي مساعدات لمناطق النظام إبّان ذورة جائحة كورونا، إذ تدهورت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في أنحاء سوريا بسبب “كوفيد-١٩”.
فيما يتعلَّق بالتبادل التجاري والاقتصادي، يمكننا الإشارة إلى أن الإمارات، ثاني أكبر مستثمر عربي بسوريا قبل عام ٢٠١١ بإجمالي استثمارات بلغ ٢٠ مليار دولار، تهتم بالمكاسب الاقتصادية والتجارية من التواصل مع الأسد، حيث ينجذب المستثمرون الإماراتيون إلى الأرباح التي يمكن كسبها من خلال إعادة الإعمار بعد أن تضع الحرب الأهلية أوزارها. وفي العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعلنت وزارة الاقتصاد الإماراتية عن اتفاقها مع سوريا على خطط مستقبلية لتعزيز التعاون الاقتصادي، وبحسب ما قالته مصادر إماراتية، فإن قيمة التجارة غير النفطية بين البلدين بلغت في النصف الأول من عام ٢٠٢١ مليار درهم، وهو ما يساوي ٢٧٢ مليون دولار.
اعتبارات العودة في دمشق
كان دعم دول الخليج لشتى جماعات المعارضة وإصرارها على إسقاط الأسد السبب في الفجوة الأساسية بينها وبين النظام السوري في ذروة الحرب السورية، إذ دعمت دول مجلس التعاون الخليجي حلفاء للولايات المتحدة مثل الجيش السوري الحر بالأسلحة والمال بدرجات متفاوتة. ولكن في العامين الأخيرين، تحول صف الخليج إلى إعادة التعامل مع نظام الأسد، وكان هذا التحول بسبب عدة دوافع، وهي القناعة التامة بأن الحرب في الأراضي السورية انتهت لصالح الأسد، وأن ثمة ضرورة لإعادة دمج سوريا في محيطها العربي، وذلك لتفادي وجود دولة فاشلة قد يؤثر عدم استقرارها على جوارها القريب، وهناك أيضًا دافع منافسة وإعاقة الدور الإيراني المتعاظم في سوريا، والذي يفتقد أدوات اقتصادية وتجارية عديدة تملكها بوفرة دول الخليج.
بالنسبة لأبو ظبي، يعود هذا التحوُّل إلى الأرضية المشتركة التي أوجدها التعاون العسكري مع الروس الحاضرين عسكريًا في سوريا منذ عام ٢٠١٥. فقد رأت الإمارات أن الساحة السورية أصبحت منطقة يزداد فيها نفوذ إيران وتركيا على حساب العرب، وأن قبول الأسد لفتح باب التفاهم مع روسيا، وعقد اتفاق روسي-خليجي لإعادة توجيه بوصلة نظام الأسد بعيدًا عن إيران وتركيا، قد يكون مخرجًا جيدًا يحقق الكثير من الأهداف الخليجية.
بالإضافة إلى أن موقف أبو ظبي الراسخ في التيارات الإسلامية المختلفة كان دافعًا لها كي تنأى بنفسها عن دعم المعارضة السورية الإسلامية، إذ توم السياسة الإماراتية الإقليمية اليوم على مواجهة ومعارضة التيارات المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين في جميع أنحاء المنطقة، في حين تظل السياسة السعودية مُرتكزة بالأساس على مواجهة إيران جيوسياسيا وتحجيم تمدُّدها، ومن ثم تظل ورقة استغلال بعض الجماعات الإسلامية في مواجهة إيران حاضرة في ذهن الرياض علـى عكس أبو ظبي، والتي لا يغيب عن تحركاتها معاداة النفوذ التركي، رغم النفتاح الاقتصادي الأخير بين البلدين بعد زيارة بن زايد إلى أنقرة.
ونتيجة لهذا، فإن الإمارات تمتلك الدوافع الأكثر إلحاحًا لاستعادة العلاقات مع نظام المجرم بشار الأسد، وهي دوافع لا تتشاركها بقية دول الخليج بالقدر ذاته، إذ تبقى السعودية بعيدة عن مشهد إعادة العلاقات مع النظام السوري، كما أن مسيرة إصلاح العلاقات بين أنقرة والرياض مؤخرًا تبدو أكثر جدية وأشمل على المستوى السياسي، حيث تظهر المملكة السعودية قلق أقل حول النفوذ التركي في سوريا، ولا يسعها في الأخير -على عكس دول غربية عديدة- أن تتجاهل ما يمكن أن تُمثِّله أنقرة من ثقل إستراتيجي في محاولات خلق توازن مع إيران.
في الناحية الأخرى، يظل موقف قطر من استئناف العلاقات مع النظام السوري على حاله، فمع أن الدوحة قلصت تدريجيًا دورها في دعم المعارضة السورية، إلا أنها تبقى معادية للنظام كما تكشف زيارة وزير الخارجية الإماراتي لدمشق، حيث دعت قطر إلى وقف تطبيع العلاقات مع سوريا، وخلال مؤتمر صحفي مشترك في واشنطن، قال وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، لنظيره الأمريكي أنطوني بلينكن إن “موقف قطر سيبقى على حاله، وإننا نعتقد أن تغيير الموقف ليس خيارا قابلا للتطبيق”.
اضف تعليقا