إن تقاسم السلطة في لبنان يعتمد على النظام الطائفي، حيث يتم تحديد عدد الممثلين والمواقف السياسية وتوزيع السلطة مسبقًا بين الجماعات الدينية في البلاد. يوجد ١٨ طائفة دينية معترف بها في لبنان، ومع نظام تقاسم السلطة القائم على الطائفية، فإن الهوية اللبنانية الشاملة ليست في الأفق.
لبنان من بين أكثر البلدان تطرفًا في العالم. تساهم الهويات الطائفية بشكل كبير في تشكيل الولاءات السياسية وكذلك الشخصيات العامة للأفراد، وبما أن المصالح الطائفية مرتبطة بالمصالح الشخصية ، فلا يمكن أن تكون هناك هوية وطنية جماعية قوية. وبسبب هذه الهويات المجزأة، تعاني السياسة الخارجية للبلاد، وأثبتت التطورات الأخيرة والخلاف الدبلوماسي بين لبنان والتحالف السعودي هذه الحقيقة مرة أخرى.
نظام تقاسم السلطة اللبناني
يُطلق على النظام السياسي القائم على الدين في لبنان اسم “الطائفية”، وهذا النظام موروث من فترة الانتداب الفرنسي، وتم تحديثه عندما أعلنت لبنان استقلالها في عام ١٩٤٣. في البداية، تم تقسيم البرلمان بنسبة ٥ إلى ٦ من المسيحيين والمسلمين. يتم توزيع المواقف السياسية الحاسمة بين المجتمعات؛ أي يكون الرئيس مسيحيًا مارونيًا ورئيس الوزراء مسلمًا سنيًا ورئيس مجلس النواب مسلمًا شيعيًا.
أدت الهجرة إلى لبنان، بعد الحرب والهجرة المسيحية إلى الغرب، إلى زيادة كبيرة في نسبة المسلمين في السكان. وكان التقسيم القديم للسلطة لا يرضي جميع الطوائف، فاندلعت الحرب الأهلية في لبنان (١٩٧٥-١٩٩٠).
في عام ١٩٨٩، تم عقد اتفاقية الطائف والتي أرست السلام بينهم، وغيرت نسبة التقسيم القديمة بين المسيحيين والمسلمين إلى ٥٠:٥٠. كما عززت الاتفاقية صلاحيات رئيس الوزراء السني على حساب رئاسة الجمهورية المخصصة للطائفة المسيحية المارونية. كما أنه يتم توزيع المناصب في مجلس الوزراء بين الطوائف، وتساعد الهويات الطائفية الناس في العثور على وظائف في الوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى. وبالطبع هناك منافسة كبيرة بين الطوائف، ومحاباة الأقارب في المؤسسات العامة.
الهويات الطائفية على الولاء الوطني
في لبنان، يعرف الأفراد أنفسهم بهويتهم الدينية، قبل الهوية الوطنية الشاملة. ولذلك يمكن ملاحظة المنافسة بين المجتمعات على المستوى الفردي والسياسة الخارجية للبلد. تحاول جميع الطوائف تعظيم قوتها واستخدام مؤيديها لتحقيق هذه المنافسة، كما تقوم التفاوتات الاجتماعية بتغذية هذه الثقافة السياسية المجزأة. بالإضافة إلى ذلك، فإن كل الطوائف لديها حلفاء على المستوى الدولي، وبالتالي فإن البلاد تتأثر بشدة بالتدخلات الأجنبية.
لدى الجهات الفاعلة الرئيسية في المنطقة مثل إيران والمملكة العربية السعودية وتركيا، وكذلك الجهات الفاعلة العالمية مثل روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، روابط دينية أو ثقافية مع المجتمعات اللبنانية، مما أدى إلى تحول البلاد إلى ساحة معركة. على عكس دعم تركيا لسلامة البلاد، تتبع فرنسا والمملكة العربية السعودية وإيران سياسات أكثر عدوانية لتوسيع نفوذها، ويتم استخدام الطوائف الموجودة لتحقيق أهدافهم.
الخلاف الدبلوماسي بين لبنان والسعودية
في الأسابيع الماضية، قطعت السعودية العلاقات مع لبنان بعد تصريحات وزير الإعلام اللبناني قرداحي بشأن الحرب الأهلية اليمنية، حيث بدأ الخلاف السياسي بتقييم قرداحي للتدخل العسكري السعودي ضد الحوثيين. وذكر كرداحي أن الحوثيين كانوا يدافعون عن أنفسهم، وأشار إلى التدخل العسكري بأنه “عدوان خارجي”.
وردت السعودية على ذلك بطرد السفير اللبناني وتنفيذ حظر استيراد على البلاد. وحذت الإمارات والبحرين والكويت حذو السعودية بفرض عقوبات مماثلة، وأدانت قطر تصريحات قرداحي دون فرض مزيد من العقوبات، وبقيت عمان على الحياد.
في واقع الأمر، لم يكن رد دول الخليج نتيجة تصريحات قرداحي، بل إن القضية الأساسية هنا هي التأثير المتزايد لإران في لبنان، فالمملكة وحلفاؤها لا يريدون فقدان نفوذهم لصالح خصم إقليمي.
بعد شهر من هذه الأزمة الدبلوماسية أعلن وزير الإعلام قرداحي استقالته. وقال قرداحي خلال مؤتمر صحفي “أرفض أن أُستخدم كسبب لإلحاق الأذى بلبنان، وكذلك زملائي اللبنانيين في السعودية ودول الخليج الأخرى”.
كان لفرنسا دور كبير في هذا القرار، حيث قال رئيس الوزراء اللبناني ميقاتي إنه “لن تكون لبنان على جدول أعمال محادثات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المقبلة في الرياض إذا لم يستقيل وزير الإعلام قرداحي بحلول ٤ ديسمبر”.
كان من الممكن أن تكون استقالة وزير الإعلام قرداحي سببًا في حدوث أزمة داخلية، وذلك في حال قد تمت دون مصالحة بين الطوائف في لبنان، فالتفاعلات بين الطوائف اللبنانية قليلة جدًا منذ الحرب الأهلية، وهي تتأثر بسهولة بالمشاكل الخارجية.
آثار الانهيار الاقتصادي
من المرجح أن تتسامح الدول المزدهرة مع النزاعات الطائفية، وأن تكون أقل عرضة للتأثر بالمشاكل الدبلوماسية. ومع ذلك، تواجه لبنان أسوأ أزمة اقتصادية منذ الحرب الأهلية. وفقًا للبنك الدولي، فإن لبنان تشهد واحدة من أسوأ الأزمات المالية في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
يؤدي عدم المساواة الاجتماعية والفقر والتضخم المفرط والبطالة المرتفعة إلى حدوث قدر كبير من الاضطرابات في المجتمع، وهذه الاضطرابات عززت من الطوائف الدينية، وتركت لبنان مع نظام سياسي مختل وهوية وطنية مجزأة. بالإضافة إلى ذلك فإن الهوية الوطنية تتعرض لمزيد من التهديد بسبب الاقتصاد المتدهور. من المستبعد كذلك أن يتغير النظام في المستقبل القريب، وربما سيخلق المزيد من المشاكل، وحتى لو تعافى الاقتصاد في البلاد، سيستمر الهيكل الدستوري في كونه التهديد الحقيقي في لبنان، وهذا هو السبب في أن إعادة التشكيل السياسي هو أكثر ما تحتاجه البلاد في الوقت الحالي.
اضف تعليقا