غالبا ما تتفاوت التقديرات حول مدى قوة روسيا وتأثير حضورها المتزايد على المسرح الإقليمي في الشرق الأوسط. قال كلًا من “فرِدريك وِري” و”أندرو وايس”، في مقال لهما بمجلة “فورين أفيرز” الأمريكية، إن القوة الروسية التي تتمدد سريعًا تستند إلى قواعد هشة، وإن الظلال الروسية التي غطت مساحات شاسعة من ليبيا وسوريا تفوق كثيرا الحجم الحقيقي للقوة الفعلية للروس على الأرض، وأن القلق في الولايات المتحدة من “عودة روسيا” مُبالغ فيه بالنظر لما تتمتَّع به واشنطن من تفوُّق واضح على شتى الأصعدة في مواجهة روسيا.
أوضح التقرير أن وزارة الدفاع الروسية بذلت الغالي والنفيس من أجل معرض التسليح السنوي الخاص بها على تخوم موسكو في أغسطس/آب الماضي. فقد توافد وزراء الدفاع والزوَّار رفيعو المستوى من ٤١ دولة، ومنها دول بالشرق الأوسط، ليطالعوا أحدث ما توصَّلت إليه التكنولوجيا، ويشهدوا استعراضات الرصاص الحي، والإعلان التشويقي لفيلم عن عملية إنقاذ الطيَّارين الروسي عام ٢٠١٥ من خلف خطوط العدو في سوريا. وتزامن هذا الحدث مع الأسبوع نفسه الذي لملمت فيه الولايات المتحدة فوضى الانسحاب من أفغانستان، ولذا بدا أن الأحداث تعطي رسالة مفادها أن روسيا قد عادت عودة كبرى على المسرح الدولي، وبالأخص في الشرق الأوسط.
لطالما استغلت روسيا إخفاقات الولايات المتحدة والشكوك التي أصابت بعض حلفائها القدامى لإيجاد موطئ قدم لها في الشرق الأوسط. بيد أن الخطر الذي تُشكله بالنسبة لنظام الأمن الإقليمي الأميركي في المنطقة أقل سوءًا مما توحي به التحذيرات الأخيرة التي أطلقها محسوبون على إدارة ترامب، مثل “جون بولتون” و”هِربِرت رَيموند ماكماستر”، مستشارَيْ الأمن القومي السابقين. في الحقيقة، تفوق الطموحات الشامخة لموسكو حجم نفوذها الفعلي على الأرض، وعلى صناع القرار الأميركيين أن يتجنَّبوا تهويل قدرات روسيا في الشرق الأوسط بهدف سعيهم لتضميد جراح الانسحاب من أفغانستان وطمأنة الحلفاء وإعادة توجيه الحضور العسكري الأميركي نحو آسيا.
يُعَدُّ الوجود الروسي في الشرق الأوسط ضخمًا بوجه من الوجوه. فقد نشرت موسكو قواتها المسلحة والمرتزقة الخاصة بها في البلدان التي مزَّقتها الحرب مثل سوريا وليبيا، لتُبرهن على جدارتها بملء فراغات القوة التي خلَّفتها واشنطن. واستخدم الكرملين أيضا وسائل شتى لإقحام نفسه في النسيج الإقليمي لشمال أفريقيا والشام والخليج، فهو يقوم ببيع السلاح لدول عربية مثل الجزائر ومصر والعراق، ويتعاون مع السعوديين تعاونًا وثيقًا في إدارة أسواق النفط العالمية عبر منظومة “أوبِك بلَس”. بالإضافة إلى أن القادة الروس والإسرائيليين أكدوا علاقات شعبَيْهم الوطيدة بينما يعملون خلف الستار لتجنُّب الاصطدام في سوريا.
تقوم موسكو بتلك الغزوات العسكرية والدبلوماسية برشاقة وبكُلفة زهيدة. فلا يقلق نظام الرئيس “فلاديمير بوتين” حيال خضوعه لرقابة برلمان مستقِل أو صحافة حرة، ما يعني أن السياسة الروسية لا تحمل مخاوف الاصطدام برد فعل داخلي أو بخرق حلفائها لحقوق الإنسان. وقد انجذب المستبدون العرب إلى السمة الأخيرة تحديدًا، وهُم الذين طالما انزعجوا من معونات واشنطن المشروطة. وهُنا تُمثل ليبيا وسوريا نموذجين مثاليين، إذ أثبتا أن موسكو تتعامل مع اللاعبين الإقليميين والمحليين مهما تخطوا الحدود بالنسبة إلى الغرب، ولذا باتت موسكو اليوم وسيطا مهما في كلا الصراعين الليبي والسوري.
بيد أن التأثير الإستراتيجي للنفوذ الروسي في الشرق الأوسط متواضع جدا أكثر مما يفترض كثيرون. وإذا نظرنا بدقة إلى غزوات الكرملين بالمنطقة، فسرعان ما ستظهر لنا إخفاقات وخيبات روسية بسبب ما تملكه موسكو من عُدَّة سياسية محدودة، لا سيما في التعامل مع تعقيدات المشهد السياسي بالشرق الأوسط. ورغم ما أُغدق عليهم من اهتمام روسي، فإن اللاعبين الإقليميين يتصرفون بالكاد باعتبارهم مطيعين لروسيا، حيث أظهروا قدرة مدهشة على تخييب آمالها.
على سبيل المثال، في سوريا التي تعد هي الرقعة الأساسية لعودة الوجود الروسي إلى الشرق الأوسط، تكرَّر إحباط قدرة روسيا على بلوغ مُرادها على الأرض مرات ومرات. فقد تمثَّلت الأهداف الأصلية للتدخُّل العسكري الروسي بإبقاء “بشار الأسد” ونظامه في السلطة، واستعادة السيطرة على قلب سوريا، وهُما هدفان تحققا بالفعل قبل نحو أربع سنوات. ومنذ ذلك الحين والكرملين يتعثَّر بقدراته المحدودة كلما حاول استعادة بقية الأراضي الواقعة خارج سيطرة النظام اليوم، وكذلك حين حاول انتزاع رفع العقوبات وجلب الدعم المالي لإعادة الإعمار في دمشق، ناهيك بإخفاقه في وقف تدخل دول قوية مثل تركيا والولايات المتحدة في شمال سوريا. بالإضافة إلى ذلك، كان على موسكو أن تتعامل مع استعداد نظام الأسد لضرب رعاته الأبرز، الروس والإيرانيون، بعضهم البعض.
كما أن التدخل الروسي في ليبيا لم يحقق هو الآخر أهدافه كاملة. فقد نشرت موسكو مجموعة مرتزقة تابعة لها تعرف باسم “فاغنر”، وذلك لتقاتل لصالح أمير الحرب “خليفة حفتر”، الذي يتمركز في شرق ليبيا. واحتفظت موسكو بشكوكها دومًا حيال القدرة العسكرية للزعيم الليبي وولائه لروسيا، ومن بعد منتصف العام الماضي حين وصلت القوات العسكرية التركية لتعزيز صفوف منافس حفتر المتمثل بالحكومة الليبية ذات الاعتراف الأممي، المتمركزة في الغرب، فإن روسيا تنازلت عن حملتها لشن هجوم على العاصمة طرابلس، وبدًا من ذلك، استعادت موقعها بخوض المسار الدبلوماسي.
ثم باءت جهود روسيا لتعزيز نفوذها في بقية أنحاء المنطقة بالفشل. فلم تبدِ أيٌّ من الجزائر أو مصر استعدادا لخلق شراكة إستراتيجية دائمة مع موسكو، أو منحها حقوق استخدام طويل الأمد لقواعدهما العسكرية ومنشآتهما البحرية، رُغم شرائهما كميات هائلة من السلاح الروسي. وبالمثل فإن التوغُّل التجاري الروسي في المنطقة هزيل بدرجة كبيرة، إذ إن الدولة الروسية اليوم، على عكس الاتحاد السوفيتي، لا سهم لها في تمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية الضخمة، أما أهداف الشركات الروسية اليوم فهي أبسط بكثير، وهي جني الأرباح. غير أن ما ينتجه الروس لا يسعه أن ينافس ما تنتجه الشركات الصينية أو الأميركية أو الأوروبية.
ويعكس هذا النفوذ المحدود حقيقة أن أدوات السياسة الروسية غير ملائمة للاشتباك مع المشكلات المرهقة التي تواجه الشرق الأوسط، مثل الاستبداد والفساد وحاجة الشباب إلى الفرص الاقتصادية. ورغم أن الولايات المتحدة هي الأخرى لا تملك حلولا سحرية لتلك التحديات، فإنها تبقَى على نهجها بالنظر إلى المنطقة من منظور أشمل. ففي ليبيا مثلا، لا يزال الليبيون يذكرون بتقدير دور واشنطن الداعم للمجتمع المدني والتعليم والإعلام الحر والحُكم المحلي بعد ثورة فبراير/شباط، وهو ما يناقض روسيا في تركيزها على السلاح والبنية التحتية والطاقة من أجل جني الأرباح، علاوة على اتهامات ارتكاب جرائم الحرب بواسطة مجموعة “فاغنر” وفقا لتقارير موثوقة من الأمم المتحدة.
الحجم الحقيقي للوجود الروسي
لا يجب أن نسهو عن قدرة الكرملين على ارتكاب الفظائع في تلك المنطقة المأزومة، بيد أن مصالح شتى الأطراف في الشرق الأوسط، ومنها الولايات المتحدة، سيُفيدها أن ننظر بعين فاحصة وتقييم واضح إلى التحديات التي يُمثلها النشاط الروسي، بدلا من الاستغراق في التحذير المذعور. وبالتحديد، على واشنطن أن تدرك أن موسكو ستخفق في نواحٍ عدة بسبب إمكانياتها المحدودة، وبسبب قدرة اللاعبين المحليين على إخفاق خططها.
بوضع محدودية القوة الروسية تلك في الاعتبار، ينبغي لنا ألا ننظر إلى المنطقة بمنظور الحرب الباردة، فليس كل ما يحدث في الشرق الأوسط إما مكسبًا وإما خسارة في حرب مفتوحة بين الولايات المتحدة وروسيا. على سبيل المثال، على صناع القرار الأميركيين أن يكفوا عن مضاربة موسكو بتقديم مبيعات أسلحة أكثر سخاء لدول المنطقة، إذ باتت الدول العربية الاستبدادية متمرسة في استخدام العروض الروسية لانتزاع شروط أفضل في علاقاتها مع واشنطن، ومن ثم يجب ألا تنطلي تلك اللعبة على الولايات المتحدة بعد الآن.
في الوقت ذاته، على صناع القرار الأميركيين ألا يتراجعوا عن مواجهة النشاط الروسي في الشرق الأوسط، وذلك بتدبير نشاطات معارضة له باستخدام شتى الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، أو باستخدام الضغط غير الرسمي. على سبيل المثال، أمر مسؤولون أميركيون شركاء لهم في دولة “مالطا” بالتحفُّظ على شحنة عُملات ورقية ليبية مزورة، بعد أن طبعتها موسكو لمساعدة حكومة حفتر في تمويل نفسها، وكذلك أدت إحدى عمليات الاستخبارات الأميركية إلى اعتقال اثنين من عملاء روسيا في العاصمة الليبية. هذا وأحيانا ما وجهت واشنطن الأضواء إلى جرائم روسيا، مثل الصور الاستخباراتية التي نشرتها قيادة القوات الأفريقية التابعة للولايات المتحدة، موثقةً بها بها حشدا للمعدات العسكرية الروسية في ليبيا، فأثبتت بذلك خرق موسكو لحظر تصدير السلاح الذي أقرته الأمم المتحدة.
ما من شك في أن موقع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الواسع قد اهتز بعد فضيحة الانسحاب من أفغانستان. بيد أن قواعد الوجود الأميركي في المنطقة تظل بلا نظير يضاهيها، فالنفوذ الأميركي السياسي والاقتصادي، وقوة واشنطن الناعمة والصلبة، وتطويعها للدبلوماسية متعددة الأطراف، وقيادتها لنظام دولي يستند إلى قواعد واضحة، يظل يعطيها السلطة العليا في مواجهة منافسيها، ولذا يجب على صانع القرار الأميركي أن يضع أنظاره صوب تعزيز تلك المزايا، بدلا من تهويل الخطر الروسي، الذي دأبت عليه أصوات عديدة في واشنطن.
اضف تعليقا