العدسة_ منذر العلي

حادث إرهابي واحد كان كفيلًا بإقالة وزير الداخلية حسن الألفي عام 1997، إلا أن التفجيرات والاغتيالات وغيرها من العمليات المسلحة ضد الشرطة لم تزد الوزير الحالي مجدي عبدالغفار إلا قوة.

حادث الواحات، فجّر من جديد موجة المطالبات بإقالة الوزير، بعد الاتهامات التي حمّلته المسؤولية الأكبر عن عشرات الضباط والجنود الذين لقوا حتفهم، الجمعة الماضية.

المعركة التي دارت في الكيلو 136، أوقعت عددًا من ضباط وأفراد الشرطة اختلف تقديرهم بين البيان الرسمي المتأخر وتصريحات المصادر الأمنية لوسائل عالمية ومحلية، لكنهم ليسوا كأي ضباط، إنهم الصفوة الأكثر تسليحًا وتدريبًا بالداخلية ويتم انتقاؤهم بعناية شديدة لمثل تلك المهمات.

من العمليات الخاصة، والأمن الوطني، والأمن المركزي تشكلت قوة المداهمة، في تنظيم يوحي بأن الأمر يتمتع بتنسيق عالٍ بين قطاعات وأجهزة الداخلية، وخطة واضحة، فضلًا عن الإسناد الجوي لمطاردة المسلحين وإجلاء الناجين.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الأسماء التي أعلنت عنها بعض وسائل الإعلام للمشاركين في العملية، تكشف أن من بينهم رتب عالية بأعداد كبيرة، على نحو يبدو فيه من غير المنطقي أن الداخلية تنوي التضحية بكل هؤلاء الرجال.

قوات ” الشرطة المصرية “

المشاهد السابقة لا تعطي أبدًا مجالًا للشك بأن ثمة خللا أو تقصيرا أمنيا أو حتى عدم تنسيق في المهمة، لكن الواقع كان مغايرًا.

فإذا كانت الداخلية تدرك حجم المواجهة المحتملة، ولهذا وجهت فرقة بهذه الكفاءة القتالية والاستعداد، فكيف وقعوا في الفخ ليكتب الحادث على أنه الأكثر دموية من نوعه في تاريخ الشرطة المصرية؟.

الاحتمال الآخر، وهو الأضعف، يقود إلى أن الخلل ليس في التخطيط أو التنظيم بل في القوة المكلفة بالعملية التي يكشف الحادث أنها أقل كفاءة بمراحل مما هو متوقع أو مما تُعد له، لكن في كل الأحوال لا تنتفي مسؤولية الوزارة وقياداتها حتى في هذا البُعد.

فهل أمام هذا السيناريو، تجد مطالبات إقالة وزير الداخلية صدى لدى الرئيس عبدالفتاح السيسي، أم أن هناك ما يعوق تلك الخطوة؟.

” مجدي عبد الغفار “

 

رائحة الخيانة

حالة الارتباك داخل الوزارة، يبدو أنها وصلت إلى مكتب الوزير مجدي عبدالغفار، إلى حد يدفع للتساؤل: هل يطيح الحادث بوزير الداخلية؟.

الفشل الذي يحيط بكامل تفاصيل الحادث بمختلف مراحله، بدءًا من المعلومات الواردة بشأن تمركز المجموعة المسلحة، مرورًا بالتعامل معها والاشتباك وأزمة انقطاع الاتصال، وصولًا إلى التعتيم الإعلامي، يظهر فيه الوزير المسؤول الأول عما يحدث.

اللواء أحمد جاد منصور، الرئيس السابق لأكاديمية الشرطة، كتب عبر حسابه على فيس بوك كلمات مثيرة للجدل، تحمل اتهامًا صريحًا ومباشرًا بوقوع “خيانة” تسببت في الكارثة.

“منصور” قال: “مليون في المية فيه حاجات غلط.. أين أجهزة المعلومات؟ أين التنسيق بين الجهات الأمنية؟ رائحة الخيانة تزكم الأنوف”.

وهكذا، بين الإهمال ونقص الكفاءات وضعف التدريب والخلل الأمني والتقصير والخيانة، تبدو السهام كافة موجهة إلى صدر وزير الداخلية بالمسؤولية عما جرى، بما ينعش المطالبات بإقالته.

لكن هل يجرؤ السيسي على تلك الخطوة ؟

مع كل واقعة يتضح فيها جليًا تقصير الأمن في القيام بمهامه، تشتعل بورصة المطالبة بإقالة الرجل، إلا أن شيئًا لا يحدث، بل يرسخ الوزير أقدامه أكثر وأكثر، ويتفانى في تقديم قرابين بقائه، بحملة توصف بالقمعية ضد المعارضين السياسيين.

” السيسي ” بجوار ” البابا ” بعد حادث البطرسية

وليس ببعيد منا حادث تفجير الكنيسة البطرسية في ديسمبر 2016، الذي تطوع عقبه السيسي في الدفاع عن الداخلية بقوله: “اللي حصل دا إوعوا تقولوا إنه خلل أمني.. أنا لو عايز أريحكم ممكن أعمل حاجات كتيرة..”.

يبدو أن الأمر ينطوي على كثير من التفاصيل التي تحكم طبيعة العلاقة بين وزير الداخلية ومؤسسات الدولة، إلى الحد الذي دفعه لتجاهل استدعاء مجلس النواب له في اليوم التالي لتفجيري كنيستي طنطا والإسكندرية.

بل إن جريدة واحدة طالبت في عددين متتاليين بإقالة وزير الداخلية عقب التفجيرين، فكان جزاؤها مصادرة العددين، رغم العلاقة الوثيقة التي تجمع رئيس تحريرها “عبدالرحيم علي” بأجهزة الأمن.

“موسى” يكشف صراع الأجهزة

ولعل الحديث المتزايد عن الصراع المحتدم بين أجهزة الدولة الأمنية، يمنع السيسي من اتخاذ قرار مثل هذا، بل إن مصادر قريبة من دوائر الحكم، كشفت أن الصراع ليس بين أجنحة النظام فقط، بل داخل الأجهزة السيادية ذاتها، وهي أحد العوامل التي تضعف سيطرة السيسي على الأوضاع بشكل عام في الدولة.

ومن المؤكد أن قرار مثل إقالة وزير الداخلية ليس سهلًا في دولة تحكمها العقلية الأمنية، وتتجاذب مؤسساتها وأجهزتها الأمنية صراعات النفوذ.

هذا الصراع ربما تجلى بشكل صارخ في التسريب الصوتي الذي أذاعه الإعلامي أحمد موسى، لما قيل إنه شهادة أحد الأطباء المعالجين لمصابي الحادث من الجنود، وكشف بعضًا من كواليس ما حدث.

وعلى الرغم من استعداد نقابة الإعلاميين لاتخاذ قرار بوقف موسى عن العمل على خلفية التسريب، إلا أن نفي وزارة الداخلية لصحة ما جاء به والحملة الإعلامية المطالبة بمحاسبته يرشح لمزيد من الإجراءات بحق “موسى” قد تصل إلى الملاحقة القضائية.

” أحمد موسى “

الواقعة تلقي بمزيد من الضوء على الحديث عن الصراع بين الأجهزة والمؤسسات الأمنية في الدولة، يعززه ما هو معروف عن علاقات أحمد موسى الأمنية والمخابراتية الواسعة.

تلك العلاقات التي مكنته من إذاعة تسريبات سابقة كالمكالمة بين الفريق سامي عنان رئيس أركان حرب الجيش الأسبق، ومحمد البرادعي النائب السابق للرئيس المؤقت، دون أن يطالب أحد بمحاسبته أو تصدر بيانات رسمية أو غير رسمية تعترض على الأمر.

ولعل الجهة التي تقف وراء التسريب ستحسم إلى حد كبير الجدل الدائر حول طبيعة هذا الصراع القائم.

هذا البُعد يعيد إلى الأذهان ما يدور على مدار سنوات عن العلاقة المتأزمة بين ضباط الجيش والشرطة، وما يشوبها من حقد أشعلته سياسة الرئيس الأسبق حسني مبارك التي أعلت من مكانة ضباط الشرطة وتحديدًا أمن الدولة لدرجة أنهم كانوا يكتبون تقارير في ضباط الجيش تؤول ببعضهم إلى التحقيق وربما المحاكمة.

ثورة 25 يناير حطمت هذه الأسطورة عندما انكسرت الشرطة أمام حشود الثوار، ولم ينقذها من بن أيديهم سوى ضباط الجيش، الذين تعززت مكانتهم بعدها إلى أن وصلت لدرجة غير مسبوقة من التفضيل على ضباط الشرطة في عهد السيسي.

الشاهد هنا أن هذا التفضيل يعكسه مواقف السيسي المتناقضة حيال وقوع هجمات مسلحة على الطرفين، ففي حالة ضباط الجيش يُعلن الحداد، وتوقف البرامج، وربما يشارك السيسي في جنازة عسكرية مجمعة مهيبة.

أما، في حال ضباط الشرطة، ورغم فداحة الخسائر في الحادث الأخير إلا أن السيسي تجاهل الأمر وكأنه لا يعنيه، وذهب إلى العلمين لإحياء ذكرى الحرب العالمية الثانية، ثم استعد للتوجه إلى فرنسا في زيارة رسمية، وصدرت توجيهاته بأن تقتصر جنازات الضباط والجنود كل في مسقط رأسه.

وعليه فإن التبعية المحتملة لموسى تشير إلى جهاز المخابرات الحربية التابع للقوات المسلحة، وهو المرجح أنه مصدر التسريب.

قمع وأحكام عرفية !

وبعيدًا عن تفاصيل الحادث وملابساته، فإن مآلاته تبدو ربما أكثر خطورة خاصة على مستوى التوقعات التي تشير إلى إمكانية أن تستغله السلطة أسوأ استغلال.

قد لا يتوقف هذا الاستغلال المحتمل عند حدود استمرار السلطة في العزف على وتر مكافحة الإرهاب، وحشد الطاقات في هذا الاتجاه، والترويج الإعلامي لخطورة الأمر وضرورة التكاتف والبعد عن إبراز السلبيات أو الحديث عن القضايا الهامشية مثل الأوضاع المعيشية أو الأزمة الاقتصادية أو غيرها.

الاخوان المسلمين

لكن الاحتمالات تذهب إلى أبعد من ذلك، فتشير إلى أن الحادث سوف يتم تسويقه واستغلاله لتبرير المزيد من الإجراءات القمعية بحق المواطنين، خاصة المعارضين السياسيين منهم، سواء كانوا دخل السجون أو خارجها، وفي القلب منهم قيادات وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين التي تراها السلطة عدوًا وتنسب إليها كل ما يحل بمصر من موبقات أو كوارث.

هؤلاء قد يكونوا معرضين لمزيد من التوسع في المحاكمات الجائرة والأحكام القضائية المغلظة خاصة الإعدام، وهو الأمر الذي يعززه قرار إحالة لعديد من الجرائم إلى محكمة أمن الدولة طوارئ، والتي لا يفصل بين أحكامها والتنفيذ سوى توقيع رئيس الجمهورية، بلا نقض أو استئناف.

بهذه الطريقة، تضرب السلطة عدة عصافير بحجر واحد، فهي تتخلص من صداع الإخوان الذي يؤرقها، وتبرر للداخل والخارج إجراءاتها القمعية بأقوال يسهل تسويقها ويدعمها الحادث الأخير، كما أنها ستكون قادرة على محو آثار وتداعيات الحادث من أذهان الجماهير بقرارات وإجراءات غير مسبوقة.

وتبدو أبرز مظاهر تلك المآلات المحتملة، التصريح الذي أطلقه الإعلامي المقرب من دوائر السلطة مصطفى بكر، عندما قال إنه سيطالب مجلس النواب بإعلان الأحكام العرفية، وكأن البلاد ليست في حالة طوارئ مفروضة بالفعل.