العدسة_ منذر العلي
بين الحين والآخر تطفو أزمة سد النهضة الإثيوبي عل السطح، وما يمثله من خطورة على حصة مصر التاريخية من مياه النيل.
وبينما تسابق أديس أبابا الخطى نحو إتمام إنشاءات السد، تأرجح الموقف المصري بين الدبلوماسية والتهديد والتلويح بخيارات أخرى لم تستبعد الخيار العسكري في التعامل مع الأزمة.
إلا أن ثمة متغيرًا لفت الأنظار نحو بُعد جديد في القضية، وهو البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية، السبت، وتحدث عن تنظيم الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بالتنسيق مع السفارة المصرية في أديس أبابا قافلة طبية متخصصة في جراحات العمود الفقري إلى إثيوبيا خلال الفترة من 12- 21 أكتوبر 2017.
وقالت وزارة الخارجية في البيان، إن القافلة تأتي في إطار “الحرص على تعزيز العلاقات الشعبية المصرية الإثيوبية، والرغبة في دعم أواصر وروابط الصداقة والود بين الشعبين الشقيقين”.
فهل يمكن اعتبار هذه الخطوة بمثابة إفاقة متأخرة للقوة الناعمة المصرية في أفريقيا، ولماذا يتم استخدام الكنيسة فيها؟.
” شيخ الأزهر ” و ” البابا “
ما هي؟
تُعرف القوة الناعمة على أنها “استخدام وتوظيف قوة الثقافة والقيم الأخلاقية والسياسية لتغيير الأوضاع السائدة في مجتمع ما”.
وتمتلك مصر عناصر تلك القوة كاملة، من حيث التاريخ والثقافة واللغة، وسعت على مدار عقود، خاصة في أعقاب 23 يوليو 1952، لاستخدام تلك العناصر من أجل أن تكون لاعبًا أساسيًا على المستويين الإقليمي والدولي، رغم أزماتها الاقتصادية والعسكرية.
كما تمتلك الموقع الجغرافي في قلب العالم، فضلًا عن المؤسسات الدينية البارزة كالأزهر الشريف والكنيسة الأرثوذكسية بما يمنحها مكانة دينية وروحية عالية.
ففي عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ارتبط تأثير القوة الناعمة ومدى انتشارها في محيطها الإقليمي بقوة النظام السياسي المصري وتصدير لحركة الثقافة ونشرها خارج حدودها، حيث تجلى ذلك في الإذاعة المصرية التي تبث كافة برامجها حول المنطقة باللغات العربية، والفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية، والعبرية.
وشهدت السياسة الخارجية لمصر في تلك الفترة تعاونًا كبيرًا تجاه الدائرة الأفريقية مساندًة لحركات التحرر الوطني في نيل الاستقلال والتحرر من القوى الاستعمارية التي مثلت أحد أهم دوائر التحرك المصري.
كما سعت إلى توصيل نطاق هذا التوجه عبر عدد من الأدوات تجلت في الوزارات المصرية، كما لعبت هذا الدور أيضًا “شركة المقاولون العرب” التى كانت رابطًا قويًا لحركة اقتصادية واجتماعية لمصر فضلًا عن تقديم عدد من المنح الدراسية للأفارقة.
وعلى المستوى الدولى تبنت سياسة “عدم الانحياز” نتيجة التجاذبات التي شهدها النظام الدولي بين القوى الدولية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
وفي عهد الرئيس الراحل أنور السادات تراجعت مصر في تأثيرها في محيطها الإقليمي بهذه الفترة نتيجة ارتباطها بتوجهات النظام السياسي الذي وضع الدائرة الدولية في مرمى أهدافه حيث الانفتاح على الغرب، علاوة على إبرام معاهدة السلام مع إسرائيل.
مع مجيء الرئيس الأسبق حسني مبارك تراجع التأثير الإقليمي لمصر نتيجة التحولات الجذرية التي شهدها النظام الدولي بانتهاء الحرب الباردة وبروز الولايات المتحدة كقوة عظمى في العالم، وبروز بعض القوى الإقليمية التي تحاول لعب دور القيادة في المنطقة.
فضلاً عن عدم الاهتمام بالدائرة الأفريقية نتيجة محاولة اغتياله في أديس أبابا عام 1995، الأمر الذي ترتب عليه رد فعل قوى بابتعاد مصر عن أفريقيا، بل إن مصر سقطت من حسابات الدول الأفريقية تماما بعدها، وفق تقرير سياسي.
وفي عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي، تضررت القوة الناعمة المصرية في أفريقيا كثيرًا، وابتعدت بوصلة السياسة الخارجية عن القارة السمراء، في إطار سعي النظام إلى الحصول على شرعية دولية تعزز موقفه في أعقاب الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو 2013.
وأتت ثمرة هذا الابتعاد سريعًا، منعكسًا على علاقات متوترة مع الدول الأفريقية خاصة دول حوض النيل، بسبب سد النهضة، رغم الجهود التي تحاول القاهرة بذلها في إعادة الترميم.
وتجلى الغياب المصري عن مناطق النفوذ بأفريقيا، في انتشار التواجد العسكري والأمني في منطقة القرن الأفريقي، وتحديدًا مضيق باب المندب، وامتلاك عدد من القوى الإقليمية الناشئة مثل تركيا والسعودية والإمارات والدولية مثل الصين قواعد عسكرية فيها، بخلاف تلك القديمة لأمريكا وفرنسا واليابان.
” بطريركية ” الإسكندرية
لماذا الكنيسة؟
فهل يمكن أن تُفهم القافلة الطبية للكنيسة في إطار محاولات مصر ترميم هذا الدور المفقود في أفريقيا، ولكن لماذا الكنيسة تحديدًا؟.
كما كان للأزهر دوره من خلال البعثات الدراسية من مختلف دول العالم، خاصة أفريقيا، فإن الكنيسة الأرثوذكسية المصرية تتمتع بتواجد تاريخي وسلطة روحية على الكنيسة الإثيوبية تحديدًا.
تعود العلاقة بين الكنيستين المصرية والإثيوبية إلى النصف الأول من القرن الرابع الميلادي حين قام بابا الإسكندرية “أثناسيوس الرسولي” برسامة أول أسقف لاثيوبيا وهو الأنبا سلامة في عام 330م.
ومنذ ذلك الحين جرى التقليد أن يكون رأس الكنيسة الإثيوبية أسقفا مصريا يرسله بابا الإسكندرية وبذلك تعتبر كنيسة الإسكندرية الكنيسة الأم لكنيسة إثيوبيا.
واستمرت كنيسة الإسكندرية في سيامة وإرسال مطران كرسي إثيوبيا حتي عام 1959 حين توجّت كنيسة الإسكندرية الأنبا باسيليوس كأول بطريرك إثيوبي للكنيسة الإثيوبية.
وبدأت مفاوضات استقلال الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة القبطية بداية من عام 1941 حتى 1959، حين قام البابا كيرلس السادس برسامة أول مطران إثيوبي وهو الأنبا باسليوس.
وقطع التواصل بين الكنيستين قيام الحكم الشيوعي في إثيوبيا عام 1974 بعد الانقلاب العسكرى بقيادة منجستو، وتعرضت الكنيسة إلى هجوم شرس من الشيوعية حتى انتهى الأمر بسقوط الشيوعية عام 1991.
وعندما قامت الثورة الشيوعية في إثيوبيا طلبت من البابا شنودة الثالث رسامة بطريرك جديد بدلًا من البطريرك المسجون، فرفض البابا شنودة هذا الطلب، لأن البطريرك المسجون مازال على قيد الحياة؛ كذلك لم تتم محاكمته وثبوت إدانته، ولم تأخذ حكومة إثيوبيا برأي البابا شنودة، وقررت رسامة بطريرك جديد، ما أدى إلى حدوث قطيعة بين الكنيستين.
عادت الاتصالات عام 1994، لكنها توترت مرة أخرى عام 2004 زار البابا شنودة إريتريا لتنصيب بطريرك جديد لها وهو ما جعل العلاقات تتوتر بين الكنيستين القبطية والاثيوبية، بسبب الحرب التي خاضها البلدان.
تصالح الطرفان في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية عام 2007، لكن ظلت الأمور تراوح مكانها، خاصة بعد ثورة 25 يناير وانغماس مصر في أزماتها الداخلية.
” سد النهضة “
بعد خراب مالطا !
ولعل التساؤل الأبرز الآن، هل أفاقت مصر متأخرًا بعد “خراب مالطا” لمحاولة استعادة دور مفقود، ودخول إثيوبيا من باب الكنيسة، لحلحلة أزمة سد النهضة؟.
التوجه الدبلوماسي المصري غير العنيف، وما يشمله من استخدام القوة الناعمة، يبدو أنه بات خيارًا استراتيجيًا للقاهرة، أمام الصعوبة التي تواجهها أية سيناريوهات أخرى للتعامل مع الأزمة.
فرغم القلق الذي انتاب وزير الري المصري محمد عبدالعاطي خلال زيارته قبل أيام للسد، إلا أن مصر يبدو أنها لم تمتلك في المقابل إلا مجموعة من التصريحات النارية المهددة دون تحرك فعلي على الأرض.
آخر تلك التصريحات على لسان السيسي كان خلال زيارته لتنزانيا منتصف أغسطس الماضي، حيث قال إن “مياه النيل مسألة حياة أو موت بالنسبة لمصر”، وإن مصر حريصة على تحقيق أكبر استفادة ممكنة لدول حوض النيل دون أن يؤثر ذلك على مصالحها المائية.
وفي يونيو ، قال السيسي أمام قمة دول حوض النيل في عنتيبي بأوغندا، إن “الشعب المصري يتعامل بشكل حذر مع أي تأثير سلبي محتمل على أمن مصر المائي”.
هذه التصريحات ربما تعكس توجهًا تتبناه السلطة حاليًا من أجل استعادة المسار الدبلوماسي ومحاولة توظيف القوة الناعمة في الأزمة، ويعزز ذلك الأزمات الاقتصادية والأمنية التي تعاني منها مصر حاليًا وربما تقوض القاهرة وتغنيها عن أية مواجهة عسكرية محتملة.
اضف تعليقا