يظن البعض أن انحراف جهاز الشرطة في مصر مرتبط بالنظام العسكري الذي حكم البلاد منذ يوليو 1952، بينما الأمر أبعد من ذلك بكثير، إذ يرجع الانحراف إلى بداية عهد الاحتلال البريطاني لمصر عام1882. حيث عمل الإنجليز على تغيير مهام الشرطة الرئيسية من الحفاظ على الحالة الأمنية للمجتمع إلى الحفاظ على مصالح الاحتلال وأعوانه.

ولإدراك تلك التغييرات الجوهرية نحتاج لمعرفة دور الشرطة المجتمعي قبل الاحتلال، وهو ما نجده في مواد قانون “التعليمنامة” الذي صدر عام 1880 لتنظيم إجراءات واختصاصات مأموري ضبطيات (أقسام) الشرطة، والتي شملت(منع تعاطي الخمر جهرا، ومنع النساء من الغناء بالمقاهي والحانات، ومنع الأصوات المزعجة في الجنازات وتحريم الندب، والقبض على العاطلين والدجالين وتجار الرقيق، ومنع اختلاط النساء والرجال عند الأضرحة والموالد، ومتابعة سلوك النساء الساقطات بالطرق العامة، وضرورة تغطية وجوههن وتحريم سفورهن)1.

ونظرا لأن تلك المهام الشرطية لم تكن متسقة مع اهتمامات بريطانيا، نجدها حرصت على إعادة هندسة جهاز الشرطة ضمن مخططها لترسيخ أقدامها في البلاد، فأوفدت إلى مصر في نوفمبر 1882 السفير البريطاني لدى الأستانة اللورد ” دوفرين” لدراسة تنظيم أجهزة الدولة المصرية، وهو الذي وضع  الخطوط العريضة للاستراتيجية البريطانية بمصر قائلا(من يسيطر على المالية والجيش والشرطة يسيطر على مصر).

وأوصى دوفرين في تقريره الذي أرسله للحكومة الانجليزية في لندن بالقضاء على أنصار الثورة العرابية من خلال تشكيل لجان تحقيق ومحاكم، كما اقترح إعادة تشكيل الجيش المصري تحت قيادة إنجليزية مع استبعاد العناصر التي شاركت في الثورة. وأوصى بعدة توصيات لتنظيم جهاز الشرطة منها( تعزيز قوات الشرطة على حساب تصفية قوات الجيش، وحصر قيادة قوات الشرطة في أيدي ضباط أوربيين).

وفي إطار الممارسات العملية الهادفة لتنفيذ تلك التوصيات، شن الإنجليز حملات اعتقال واسعة لأنصار عرابي ومناهضي الاحتلال، وبلغ عدد الموقوفين 29 ألف مصري من بينهم عدد كبير من الأعيان وقادة الجيش والشرطة وشيوخ الأزهر، وحُكم عليهم بأحكام متفاوتة بدءًا من الإعدام إلى النفي، كما شُكلت لجنة للبحث في أسباب حوادث قتل الأجانب بالإسكندرية، واتهمت اللجنة عدداً من رجال الشرطة بالمشاركة في الأحداث، وأحالتهم للمحاكمة، التي قضت بإعدام كل من ضابطي الشرطة “علي موسى” و”علي عطية” والجندي “بلال يوسف”، بالإضافة للحكم  بالأشغال الشاقة المؤبدة على ثلاثة وثلاثين شرطيا ، ونفذ حكم الإعدام في الضابطين في سبتمبر 1883 أمام مقر عملهما بالإسكندرية زجرا لكل من تسول له نفسه التصدي للأجانب.

كما حرص الإنجليز على تطهير جهاز الشرطة باستمرار من العناصر  التي تظهر عليها سمات وطنية، ونظرا لأن الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل مثل رأس حربة المعارضة للاحتلال ، قام الإنجليز بفصل كل من له علاقة بالحزب الوطني من جهاز الشرطة، وعلى رأسهم قائد كلية الشرطة “خليل حمدي”.  ففي اجتماع الحزب الوطني في فندق الكونتننتال بتاريخ (14/9/1907) طالب المتحدثون باستقلال مصر، وكان من بين الحاضرين القائمقام “خليل حمدي” ، فأرسل المستشار البريطاني لوزارة الداخلية “رونالد جراهام” تقريرًا عن هذا الاجتماع والحاضرين فيه إلى وزير خارجية بريطانيا. وركزت سلطات الاحتلال نظرها على” خليل حمدي” واعتبرت وجوده في الوظيفة التي يشغلها مصدر خطورة، إذ من المحتمل أن يبث أفكار الحزب الوطني في عقول الطلبة، ففصل من الخدمة وألغيت وظيفته بأمر عمومي في 21/1/ 1909.

وظل “خليل حمدي” مراقبًا بعد فصله من وظيفته، فلما نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914 تم نفيه إلى جزيرة مالطا ولم يفرج عنه إلا في أكتوبر سنة 1919.

ومع اندلاع ثورة 1919 ضد الاحتلال، لعبت الشرطة دورا محوريا في مكافحة المظاهرات، إذ ورد في تقرير المعتمد البريطاني عن أحداث يوم 29 مايو 1919 قوله (يوم الأحد أظهر المتظاهرون ترددًا في فض مظاهراتهم فتعرضوا لمعاملة قاسية من جانب بوليس السراري… وقد سُمع رجال البوليس بعد ذلك وهم يفاخرون بالإصابات التي أنزلوها بالمتظاهرين)2. أما من تجرأ من رجال الشرطة على دعم الثوار فقد  ناله بطش الإنجليز، مثل البكباشي “محمد كامل” مأمور بندر أسيوط الذي أعدم رميا بالرصاص في يونيو 1919 لاتهامه بالتحريض على مهاجمة البريطانيين .

مما سبق يتأكد أن انحراف جهاز الشرطة عن أداء مهامه الأساسية في حفظ  الأمن بالمجتمع يرجع إلى بداية عهد الاحتلال البريطاني، بالتوازي مع  اتباع سياسة الإقصاء الفوري لأي عناصر شرطية تبدو عليها مظاهر الوطنية، ومن ثم تراكم هذا الانحراف بمرور الوقت حتى صار إصلاح تلك المؤسسة بكوادرها المتوارثة ضربا من ضروب المحال، بل لابد من تفكيكها وإعادة بناءها على أسس سليمة وبكوادر مناسبة.

المصادر:

1- البوليس المصري( ١٨٠٥-١٩٢٢)- د عبدالوهاب بكر – ج١ (ص٤٣ – ٤٥)- ط. دار الكتب والوثائق القومية .

2- (50 عاما على ثورة1919)- مركز الوثائق والبحوث التاريخية لمصر المعاصرة – ص365- ط. الأهرام.

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“.