في مساء السبت الماضي، الموافق الخامس من فبراير/ شباط، أعلن الرئيس التونسي المنقلب، قيس سعيد، أنه سيمضي في إصدار مرسوم مؤقت للمجلس الأعلى للقضاء، ما يعني أنه قرر حل المجلس رغم أن الدستور التونسي لا ُيعطي له هذه الصلاحية.
ومن الواضح أن الأمر كان مدبرًا ومخططًا له من قبل قادة الثورة المضادة في تونس، كما حدث في مصر، حين افتعل الجيش أزمات وشجع على التظاهر ليمهد الأرضية للانقلاب على الرئيس الشرعي، محمد مرسي. فقد خرج في تونس مؤيدون للانقلاب الذي نفذه سعيد على الدستور والبرلمان، أمام المجلس الأعلى للقضاء بالعاصمة تونس للمطالبة بحله.
وقال سعيد، خلال زيارة أداها إلى مقر وزارة الداخلية في ساعة متأخرة من مساء ذلك اليوم: “أعرف أن التونسيين سيطالبون غًدا (الأحد) بحل المجلس الأعلى للقضاء. من حقكم التظاهر.. ومن حقكم حل المجلس الأعلى للقضاء”. وأضاف: “سنعمل على وضع مرسوم مؤقت للمجلس الأعلى للقضاء.. فليعتبر هذا المجلس نفسه في عداد الماضي من هذه اللحظة”. وأردف قائلًا: “صار مجلسًا يتم وضع الحركة القضائية فيه بناء على الولاءات، هؤلاء (بعض القضاة) مكانهم ليس المكان الذي يجلسون فيه ولكن المكان الذي يجلس فيه المتهمون”.
دوافع “سعيد” لحل المجلس الأعلى للقضاء
من المعلوم أن قيس سعيد قد نفذ انقلابه في 25 يوليو/ تموز الماضي، حيث جمد البرلمان، ورفع الحصانة عن النواب، وعزل رئيس الوزراء، وتولى السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية. ورغم أنه ادعى أن هذه الإجراءات ستظل لمدة شهر واحد، إلا أن الرئاسة التونسية عادت وأصدرت بيانًا في 23 أغسطس/آب الماضي، أعلنت فيه قرار سعيد، تمديد التدابير الاستثنائية التي اتخذها ”حتى إشعار آخر“، ما يعني أن المدة صارت مفتوحة وبلا أي قيود.
وفي 22 سبتمبر/أيلول الماضي، أصدر سعّيد المرسوم الرئاسي رقم 117، الذي قرر بموجبه إلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية. الأمر الذي يعتبر إلغاء للدستور التونسي، وعودة البلاد إلى حكم الفرد الواحد. هذا بجانب قرارات أخرى تضمنت حبس بعض نواب الشعب، ووضع بعضهم تحت الإقامة الجبرية، عالوة على منع كل النواب من السفر، وسلب كل امتيازاتهم القانونية.
في خضم هذا، كان القضاء بمثابة غصة في حلق الرئيس المنقلب، الذي خان القسم الذي أداه أمام البرلمان الذي حله لاحقًا، ذلك أن القضاء التونسي اكتسب استقلالًا في قراراته بعد الثورة التونسية، ورفض كل محاولات “سعيد” لتطويع القضاة وجعلهم أداة في يده.
استقلالية السلطة القضائية
واستخدم “سعيد” عدة أساليب للتأثير على القضاة، حيث أنه قبل قراره بحل المجلس، قرر سلب القضاة حقوقهم وامتيازاتهم المنصوص عليها في الدستور والقانون. كما أعلنت وزيرة العدل التي عينها “سعيد”، ليلى جفال، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عن إعداد مشروع قانون يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، رغم أن الدستور لا يعطيها ولا يعطي لرئيسها هذه الصلاحية.
لكن في الوقت نفسه، كانت هناك محاولات لاستمالة القضاة من قبل الرئيس، حيث استقبل “سعيد” عددًا من أعضاء مجلس القضاء الأعلى للحديث معهم، وربما إغرائهم ببعض الامتيازات حال اتباع انقلابه. لكن في كل مرة كان أعضاء المجلس يخرجون من الاجتماع، يؤكدون فيها على استقلالية السلطة القضائية، وأن القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم غير القانون.
وعندما يأس سعيد من تطويع القضاء وسلبه استقلاليته، بدأ بتصعيد هجومه على القضاة، قائلًا إن القضاء “مجرد وظيفة داخل الدولة”. بل وصل به التبجح ليعلنها صراحة، أن القضاة غير مستقلين، وأن القضاء “ليس سلطة تستقل بقرارها عن الرئيس”.
نزعة سلطوية استبدادية
وفي الحقيقة، فإن كلمة السر في كل تصرفات قيس سعيد هي نزعته السلطوية الاستبدادية، حيث إنه أعرب مرارًا عن رفضه للنظام السياسي في تونس. فهو لا يريد أن يكون هناك توزيع للسلطات بين الرئيس والحكومة والبرلمان، وباقي مؤسسات الدولة. بل إن كل ما يريده أن تتجمع السلطات كلها في يد الرئيس ليتمكن من فرض رأيه بالقوة، حتى على القضاء.
فقد حال “سعيد” دون تشكيل حكومتي إلياس فخفاخ وهشام مشيشي أكثر من مرة. كما عبر، في أكثر من مناسبة، عن عميق سخطه و”تقززه” من الطبقة السياسية في تونس، وتمنى التخلص منها بأي طريقة ممكنة، حيث اعتبرها عقبة في طريق تطبيق سياساته.
وبالفعل، يعمل “سعيد” جاهًدا على سلب صلاحيات كل الجهات في تونس، وفي المقابل منح نفسه صلاحيات واسعة، يصبح بامتلاكها مهيمنًا على المشهد السياسي بأسره، في ضوء غياب البرلمان والمحكمة الدستورية، وتحييد أي نوع من الرقابة عليه، كي لا يملك أحد محاسبته على قراراته وأفعاله.
زيارة “سعيد” لقائد الانقلاب في مصر
وكان أستاذ العلوم السياسية في جامعة “جونز هوبكنز” الأمريكية، خليل العناني، قد أكد هذه النزعة السلطوية لدى “سعيد” حين قال إن “سعيد يقرأ من نص الطغيان والانقلاب نفسه؛ فهو يستخدم اللغة نفسها، والأساليب نفسها التي استخدمها قائد الانقلاب في مصر، عبد الفتاح السيسي، للوصول إلى السلطة، ومن أهمها على الإطلاق استخدام الخطاب الشعبوي واستغلال الأوضاع المتردية اقتصادًيا واجتماعًيا لتبرير الإجراءات الاستثنائية”.
وأردف العناني، في مقال نشره موقع “ميدل إيست آي” البريطاني أن “تلك الوسائل تتضمن الاستثمار في الأزمات االقتصادية واالجتماعية، وتشويه الخصوم الايديولوجيين (خاصة الإسلاميين) والتهديد باستخدام القوة والأسلحة في مواجهة من ينتهكون القواعد، والتحالف مع قوى معادية للثورة، مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية”.
وما يؤكد حديث العناني، ويؤكد كذلك أن “سعيد” غير مهتم بتمكين الديمقراطية، التي ستحد من نزعته الاستبدادية، هو أنه زار السيسي في نيسان/ إبريل في القاهرة، وجرى بينهما لقاءات حصرية ليس لدى أحد معلومات عما جرى فيها.
اضف تعليقا