ترجمة مقال للصحفي كنان مالك في صحيفة الغارديان البريطانية

في عام 1857، كتب الشاعر الإنجليزي إرنست جونز سلسلة من المقالات في صحيفة الشعب حول “التمرد الهندي” في ذلك العام. من وجهة نظره، هذه الحركات لم تكن مجرد “تمرد” بل كانت “حركات وطنية” يجب على البريطانيين دعمها بقدر ما دعموا حركات مماثلة في أوروبا، مثل بولندا مثلاً، إذ وقف البريطانيون إلى جانب البولنديين عندما “ناضلوا من أجل الحرية ضد روسيا”. شدد جونز على أنه “إذا كانت بولندا على حق، فإن هندوستان كذلك”.

تذكرت حجته عندما قرأت واستمعت إلى بعض التعليقات حول المقاومة الأوكرانية للغزو الروسي، الغزو وحشي وغير مقبول بالطبع، وهو اعتداء على الديمقراطية والسيادة، وأرى أنه يجب أن نعارضه كما يجب أن نعارض الهجوم السعودي على اليمن، أؤمن أنه يجب أن ندعم شعب أوكرانيا كما ينبغي لنا أن ندعم شعب سوريا.

بكل أسف لم يكن هذا رأي النخبة الأوروبية عند التعبير عن تضامنهم ودعمهم للأوكرانيين. تيم ستانلي صحفي التلغراف، قال في خانة فكرة اليوم على إذاعة بي بي سي 4، أن أوكرانيا تحركنا أكثر من سوريا أو اليمن لأنها “دولة أوروبية” ولأن “الشباب الذين يتطوعون أو يتم تجنيدهم يمكن أن يكونوا أبناءنا أو آبائنا”.

على ما يبدو، لم يفكر في أن ما يشعر به الآباء والأبناء في اليمن أو العراق أو غيرها من البلدان لا يختلف أبداً عما يشعر به الأوروبيون

بالنسبة إلى زعيم حزب المحافظين وعضو البرلمان الأوروبي السابق دانيال هانان، فإن الصراع في أوكرانيا صادم لأنهم “شعوب تشبهنا”، ويعيشون في “بلد أوروبي” حيث “يشاهد الناس Netflix ولديهم حسابات على تطبيق Instagram”، وخلص إلى أن “الحضارة [الأوروبية] نفسها تتعرض للهجوم في أوكرانيا”، وهي أضرار لا يمكن أن تلحق هذه الحضارة عند تدمير سوريا أو أفغانستان.

قدم العديد من النخب والمفكرين على جانبي المحيط الأطلسي وجهات نظر مماثلة، ما يتم التعبير عنه هنا ليس مجرد صدمة مشاهدة صراع وحشي في قارة مسالمة ومزدهرة نسبيًا مثل أوروبا (على الرغم من مرور 30 ​​عامًا فقط على تمزيق البلقان بسبب صراع أكثر شراسة)، بل هو الاعتقاد بأن قدرتنا على التعاطف مع آمال الناس ومخاوفهم ومعاناتهم يتم تحديدها وفق درجة تشابههم معنا… إنها حجة تقصر التضامن على أسس الهوية والعرق فقط.

هناك مفارقة أيضًا في أن مكانة الأوروبيين الشرقيين والروس في المخيلة الغربية كانت دائمًا غامضة، لكن اليوم، اتضح أن الأوروبيين يرون الأوكرانيين على أنهم “واحد منا”…. لم يكن الأمر كذلك دائماً، هناك تاريخ طويل من التعصب الأعمى تجاه عرق السلاف (الصّقالبة)، والنظر إليهم على أنهم بدائيون و “آسيويون”.

بالنسبة للمؤرخ الألماني -صاحب التأثير الكبير في القرن التاسع عشر- هاينريش فون تريتشكي، فإن “كراهية السلاف… عميقة في دمائنا” لأن السلاف “عبيد” كما كان يراهم البعض.

إدوارد روس، أحد علماء الاجتماع البارزين في أمريكا في مطلع القرن العشرين، دعا إلى منع المهاجرين السلافيين من دخول أمريكا لأنهم غير ملائمين لمخالطة أصحاب البشرة البيضاء، لأنهم -على حد قوله- غير نظيفين وأصحاب جلود متسخة.

تم تصوير الثورة الروسية عام 1917 من قبل الكثيرين بمصطلحات عنصرية، رأى المتعصب الأبيض البارز لوثروب ستودارد أن السكان الروس “يتكونون أساسًا من سلالات عرقية بدائية … والتي أبدت دائمًا عداءًا غريزيًا للحضارة”.

فيما رأى الكاتب الأمريكي كلينتون ستودارد بور، البلشفية “كمفهوم آسيوي في الأساس هو بغيض للعقل الغربي”.

أما بالنسبة لهتلر، لم تكن “المشاكل الحقيقية” بين أوروبا وآسيا ولكنها كانت تكمن في “الفروق التي تفصل العالم الجرماني عن العالم السلافي”.

لقد رأى الأوكرانيين على أنهم “ذوي البشرة الحمراء”، وقال بازدراء “في أوروبا: سنزود الأوكرانيين بالأوشحة والخرز الزجاجي وكل ما يحبه المستعمرون”.

مثل هذه المشاعر لا تزال تجد من يعبر عنها: في عام 2018، نشرت صحيفة وول ستريت جورنال مقالاً عن دبلوماسية بوتين بعنوان “تحول روسيا إلى ماضيها الآسيوي”.

إن حدود أولئك الذين هم “مثلنا”، والأوروبيون، وحتى أولئك الذين يعتبرون “بيض”، ليست ثابتة، ولكنها تتغير وفقًا للحاجة السياسية والاجتماعية، ويتم تحديد تلك الحدود المتغيرة باستمرار من قبل أولئك الذين يعتبرون أنهم ليسوا مثلنا مثل أولئك الذين نعترف بهم.

هذا هو أكثر ما يمكن ملاحظته في المناقشات حول اللاجئين وضحايا الحروب. في غضون أسبوع، فر مليون لاجئ من أوكرانيا، نصفهم إلى بولندا، وقد يرتفع هذا الرقم في الأسابيع المقبلة إلى أربعة ملايين.

كان هناك الكثير من الفوضى واليأس في الاندفاع لمغادرة أوكرانيا، لكن في البلدان المستقبلة، قوبل اللاجئون بكرم كبير وبأذرع مفتوحة وحدود مفتوحة (الاستثناء الملحوظ هو بريطانيا، حيث يدعم الجمهور سياسة ليبرالية لكن الحكومة تواصل التباطؤ).

قارن هذا بالنقاش حول “أزمة اللاجئين” في عام 2015، في ذلك العام، تلقت أوروبا 1.3 مليون طلب لجوء، وهي قفزة حادة في الأعداد بسبب الحرب السورية.

كانت الأرقام قبل ذلك ومنذ ذلك الحين أقل بكثير، ومع ذلك، فإن ذلك العام، الذي كان فيه العدد الإجمالي لطالبي اللجوء لا يُقارن بعدد لاجئي أسبوع واحد فقط من أوكرانيا، أصبح طافحًا لقارة مكتظة، ولم يرحب باللاجئين، بل تم احتجاز مئات الآلاف في أكثر الظروف قسوة.

المسألة ليست مسألة أرقام، بل تتعلق بالإرادة السياسية والحدود الاجتماعية والخيالية التي نرسمها… أصرت رئيسة الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين الأسبوع الماضي على أن أوكرانيا “تنتمي إلى الأسرة الأوروبية”، في المقابل، كان من أولويات أعمالها عندما أصبحت رئيسة للاتحاد الأوروبي في عام 2019 نقل مسؤولية الهجرة إلى حقيبة جديدة من أجل “تعزيز أسلوبنا الأوروبي في الحياة”، والتي تضمنت مهمتها حماية القارة من “الهجرة غير النظامية”.

اللاجئون من أوكرانيا هم جزء من “طريقة الحياة الأوروبية”، أما القادمون من أماكن أخرى ليسوا كذلك -من وجهة المسؤولين- هذه هي الطريقة التي يتم بها رسم الحدود للتعبير عن التعاطف والتضامن.

في عام 1857، أقرت مقالة افتتاحية في جريدة بيبولز بيبر بأننا “أظهرنا أنفسنا بصراحة على الجانب الهندي” لأن دعم “الديمقراطية يجب أن يكون ثابتًا”…. أي شخص يقول: “أنا مع المجر وضد الهند… يكذب على نفسه، وضد المبدأ، وضد الحقيقة، وضد الشرف”.

لقد أدرك إرنست جونز وجريدة بيبولز بيبر حينها أن التضامن لا معنى له إذا كان مقيداً بالعرق والهوية… لكن لا يزال الكثيرون اليوم بحاجة إلى تعلم هذا الدرس.

 

للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا