العدسة_ منذر العلي

“أرض الأحلام”.. هكذا وصف سعوديون مشروع “نيوم” الذي يعد الأضخم في تاريخ المملكة، وأعلنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الثلاثاء الماضي، وتبلغ قيمة استثماراته نحو 500 مليار دولار.

كالفرق بين هاتف “آيفون 8” والجيل الأول للهواتف المحمولة، هكذا عبر “ابن سلمان” باختصار عن الفرق بين “الحياة الحالمة” بمشروع نيوم وبين الواقع الآن للمعيشة بمختلف تفاصيلها في المدن السعودية.

يصف الملف التعريفي للمشروع “نيوم” بأنه “المستقبل الجديد، والتاريخ الجديد، والوجهة الأكثر ملاءمة للعيش في العالم، التي تليق بمواهب المستقبل، وقد تم تصميم هذه المنطقة الخاصة لتتفوق على المدن العالمية الكبرى من حيث القدرة التنافسية ونمط المعيشة إلى جانب الفرص الاقتصادية المتميزة”.

موقع المشروع، وهو ما سيتم تفصيله لاحقًا، يمتاز بخصائص مهمة؛ حيث يقع شمال غرب المملكة (منطقة تبوك)، على مساحة 26,500 كم2، ويشتمل على أراضٍ داخل الحدود المصرية والأردنية، فهو بذلك يطل من الشمال والغرب على البحر الأحمر وخليج العقبة بطول 468 كم، ويحيط به من الشرق جبال بارتفاع 2,500 متر.

موقع مشروع ” نيوم” على الخريطة

ساحل البحر الأحمر، شريان اقتصادي هام تمر عبره نحو 10% من حركة التجارة العالمية، بالإضافة إلى أن الموقع يعد محوراً يربط القارات الثلاث؛ آسيا وأوروبا وأفريقيا، إذ يمكن لـ70% من سكان العالم الوصول للموقع خلال 8 ساعات كحدّ أقصى.

ستركز منطقة “نيوم” على 9 قطاعات استثمارية متخصصة وهي: مستقبل الطاقة والمياه ومستقبل التنقل ومستقبل التقنيات الحيوية ومستقبل الغذاء ومستقبل العلوم التقنية والرقمية ومستقبل التصنيع المتطور ومستقبل الإعلام والإنتاج الإعلامي ومستقبل الترفيه ومستقبل المعيشة الذي يمثل الركيزة الأساسية لباقي القطاعات.

الدولة السعودية الرابعة!

وتبدو القراءة الأولية للمشروع الضخم وتفاصيله الدقيقة مصطدمة بالعديد من القضايا والأمور المتشابكة، على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.

إقليميًا، فإن المشروع يعد بمثابة الإعلان عن تأسيس الدولة السعودية الرابعة، على يد حفيد مؤسس الدولة الثالثة قبل 87 عامًا، ولعل التبشير بماهية هذه الدولة كان حاضرًا بقوة في كلمة ولي العهد السعودي.

تلك الدولة التي تسعى لأن تضم بين جنباتها منطقة عالمية، ربما تكون شبيهة بمدينة دبي في الإمارات، من حيث الاستثمارات وسبل المعيشة والرفاهية والحرية الكاملة، بعيدًا عن أي قيود اجتماعية أو دينية أو غيرها.

” السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة “

“.. سيكون المشروع منطقة خاصة مستثناة من أنظمة وقوانين الدولة الاعتيادية، كالضرائب والجمارك وقوانين العمل والقيود القانونية الأخرى على الأعمال التجارية، فيما عدا الأنظمة السيادية” هكذا عبر المشروع عن نفسه.

ولا يمكننا التغافل عن حديث يعتبر غريبًا عن مقصد المشروع الاستثماري الضخم، وهو تأكيد “ابن سلمان” على توجه السعودية الجديد نحو “الإسلامي الوسطي المعتدل” و”تدمير التطرف” وعدم الانتظار 30 عامًا أخرى وتكرار أخطاء الماضي في التعامل مع الأزمة.

الانقلاب الواضح على أسس ومبادئ الدولة السعودية، خاصة تلك المتعلقة بالمذهب الوهابي والرمزية الدينية للمملكة في العالمين العربي والإسلامي، يعكس توجهات القائد الجديد ورسالته التي يريد توصيلها للعالم بشأن تصورهم لبلاده في المستقبل.

“بن سلمان” خلال المؤتمر

ولعل المشهد المنقول من قلب العاصمة الرياض التي شهدت الإعلان عن المشروع، والصورة التي تظهر فيها المرأة “المتبرجة” إلى جوار الأمير، خلافًا لما اعتاده السعوديون في مثل تلك المواقف، أمر له دلالة في غاية الأهمية، ويعطي انطباعًا قصده الأمير الشاب في رسالته تلك.

يتماهى المشهد وينسجم مع خطوات أخرى على الطريق ذاته، سلكتها السعودية الجديدة وظهرت في قرارات مثل تمكين المرأة من قيادة السيارة، والسماح بالاختلاط في الأماكن العامة، وإنشاء مجمع للحديث النبوي الشريف، قالت وزارة الثقافة والإعلام السعودية إن الهدف منه هو تنقية الحديث النبوي مما علق به من نصوص وتفسيرات تبرر القتل والإرهاب.

نحن إذن أمام “دبي” أخرى سعودية يسعى خلالها البلد المحافظ المنغلق إلى الانفتاح على العالم، ضاربًا عرض الحائط بالموروثات الدينية والثقافية التي شكلت وعي السعوديين على مدار عقود.

” حفل مختلط باستاد الملك فهد “

وتتكشف حقيقة الأمر في تلك الجزئية من خلال عبارتين على قدر كبير من الأهمية، قِوامَا الملف التعريفي للمشروع، وهما: “وقد تم تصميم هذه المنطقة الخاصة لتتفوق على المدن العالمية الكبرى من حيث القدرة والتنافسية ونمط المعيشة إلى جانب الفرص الاقتصادية المتميزة”، و”وعلى الجانب الاجتماعي، ستحكم مشروع نيوم أفضل المعايير العالمية لنمط العيش في الجوانب الثقافية، والفنون، والتعليم”.

هذه المفاهيم السياسية والاقتصادية والدينية الجديدة التي عبر عنها “ابن سلمان” في إعلانه عن المشروع، تأتي ضمن الخطوات التي يسوق خلالها نفسه كقيادة جديدة مختلفة للمملكة.

إسرائيل تطل برأسها

الانعكاسات الإقليمية للمشروع، تظهر في العديد من النقاط المتعلقة بتفاصيله، بداية بالمنطقة الجغرافية التي يشملها؛ حيث تكشف الخرائط أنها تضم جزيرتي تيران وصنافير، اللتين تنازلت عنهما مصر رسميًا للسعودية يونيو الماضي بموجب تصديق الرئيس عبدالفتاح السيسي على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع المملكة.

” مظاهرات مصرية مناهضة للتنازل عن الجزيرتين “

وكان لافتًا أن تضم المنطقة الجغرافية للمشروع أجزاء داخل الحدود المصرية والأردنية، الأمر الذي يدفع للتساؤل حول الكيفية التي سيتم بها إخراج هذه الجزئية، خاصة أن مؤتمر الإعلان عن المشروع لم يستشف أيًا من مسؤولي البلدين الشريكين فيه.

فهل ستتم تسوية الأمر باتفاقية ما أو شراكة اقتصادية معينة، وما هي الصيغة النهائية لتلك الجزئية، ثم إذا كانت مصر شريكة بجزء من الأرض، فلماذا لم تعلن عن المشروع أو حتى تكون طرفًا في الإعلان الرسمي عنه، أو على أقل تقدير إعلان محلي، ثم التساؤل الأهم: على ماذا ستحصل مصر جراء تلك المشاركة، أم سيكون الأمر شبيهًا بما حدث في اتفاقية تيران وصنافير، حيث ترد مصر بهذه المشاركة الجميل للسعودية الداعم الأول للقاهرة ونظام ما بعد يوليو 2013؟.

الاحتلال الإسرائيلي يظهر كأحد الأبعاد الإقليمية للمشروع، وتنبع العلاقة من طبيعة المنطقة الجغرافية للمشروع؛ حيث يعد خليج العقبة هو المنفذ الوحيد لإسرائيل إلى البحر الأحمر، فضلًا عن طبيعة المنطقة كمياه دولية تتحكم فيها عدة أطراف من بينها إسرائيل.

” خريطة خليج العقبة “

ويبدو من غير المستساغ أن يقبل الاحتلال بإقامة هذا المشروع على تلك النقطة الحساسة دون أن يكون له نصيب فيها، الأمر الذي يرجح وجود شراكة ما اقتصادية تجمع الدول الأربع (السعودية، مصر، الأردن، وإسرائيل).

تحيلنا تلك المعادلة إلى الحديث عن التطبيع بين السعودية والاحتلال، والذي تقرر له وفق المعطيات السابقة أن ينطلق من محطة الاقتصاد، ولعل المبرر القوي الذي يمكن أن تسوقه المملكة حينها أن مشروعًا بهذه الضخامة والأهمية لا يحتمل الحديث عن خلافات سياسية أو غيره، بل تحرك المصالح الاقتصادية الأمر.

لكن اللافت في توقيت إعلان المشروع أنه يأتي في أعقاب تصريح مثير أكد فيه مسؤول إسرائيلي، لوكالة الصحافة الفرنسية أن المسؤول السعودي الذي زار إسرائيل سرًّا في شهر سبتمبر الماضي هو ولي العهد محمد بن سلمان.

الربط بين الزيارة – التي نفتها السعودية – وبين الإعلان عن المشروع لا يدع مجالًا للشك في أن علاقة إسرائيل بالمشروع أصيلة، وأنا شريكة اقتصادية فيه.

يعزز من هذا التوجه، تأكيد الملف التعريفي بالمشروع أنه بمثابة منطقة تجارة حرة لا تخضع لأنظمة وتشريعات السعودية، بل “سيكون المشروع منطقة خاصة مستثناة من أنظمة وقوانين الدولة الاعتيادية، كالضرائب والجمارك وقوانين العمل والقيود القانونية الأخرى على الأعمال التجارية، فيما عدا الأنظمة السيادية (السياسة الخارجية والقطاعات العسكرية والأمنية)”.

انطلاقًا من حديث التطبيع، فإن ثمة ارتدادا دوليا للمشروع، يتعلق بإمكانية الاتفاق على أن تكون الشراكة الاقتصادية الرباعية، بمثابة تمهيد لتسوية سياسية ما للقضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي للأبد، تحت إشراف أمريكي بطبيعة الحال.

خريطة افتراضية للوطن البديل للفلسطينيين في سيناء

هنا تنتعش الأحاديث المتواترة عن خطة لضم 600 كيلو متر من سيناء تضاعف مساحة قطاع غزة 3 مرات، ونقل الفلسطينيين إليها، مقابل منح مصر المساحة ذاتها من صحراء النقب فى جنوب الأراضي المحتلة، وإخلاء الضفة الغربية للاحتلال.

تلك الخطة يرجح أن تكون هي بالضبط ما تحدث عنه السيسي في تصريح أدلى به خلال زيارته إلى أمريكا ولقائه ترامب في أبريل الماضي، حينما قال: “ستجدنى بكل قوة ووضوح داعمًا لأي مساعٍ لإيجاد حل للقضية الفلسطينية في صفقة القرن، ومتأكد أنك تستطيع أن تحلها”.

المدير متهم بالفساد !

ومن الأمور اللافتة بشدة في الإعلان عن المشروع، هو اسم مديره التنفيذي الذي عينه “ابن سلمان” المثير للجدل “كلاوس كلاينفيلد”.

” توقيع العقد بين بن سلمان و كلاينفيلد “

صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية نشرت في عام 2009، تقريرًا كشف أن الرجل قدم استقالته من منصب الرئيس التنفيذي لشركة “سيمنز” الألمانية عام 2007 بسبب تهم فساد من بينها دفع رشاوى من أجل عقد صفقات في الخارج.

” صورة للتقرير “

“كلاينفيلد” المتهم بين عدد من المديرين التنفيذيين السابقين في “سيمنز” والمتورطين في قضية الرشاوي، اتفق على أن يدفع 4 ملايين يورو كتعويض للشركة، التي تكبدت خسائر ضخمة هي الأخرى، من أجل إغلاق القضية وعدم متابعتها قانونيًا.