كشف تحقيق لصحيفة الغارديان البريطانية عن واحدة من أكثر الهجمات الإسرائيلية دموية وإثارة للجدل في حرب غزة الأخيرة، إذ استخدم جيش الاحتلال قنبلة زِنتها 500 رطل (230 كيلوغرامًا) لقصف مقهى على شاطئ البحر، ما أدى إلى استشهاد ما بين 24 إلى 36 فلسطينيًا، معظمهم من المدنيين.

القنبلة التي خلّفت حفرة هائلة وشظايا واسعة الانتشار، تم تحديدها على أنها من نوع “MK-82” أو “MPR 500″، وهي قنابل تستخدم عادة لتدمير التحصينات العسكرية الثقيلة، لا المقاهي.

ورغم أن الاحتلال زعم اتخاذ تدابير لتقليل الأذى، فإن الخبراء القانونيين الذين تحدثوا للصحيفة أكدوا أن القصف على الأرجح غير قانوني ويرقى إلى جريمة حرب، خاصة أن المقهى كان مكتظًا بالمدنيين ولم يكن ضمن مناطق الإخلاء أو مسرحًا لأي نشاط مسلح.

سلاح عشوائي في مكان مدني مزدحم

القنبلة المستخدمة، بحسب ما خلص إليه التحقيق عبر تحليل الحطام واستشارة خبراء الأسلحة، تنتمي إلى فئة الذخائر شديدة التدمير التي تنشر شظايا على مدى واسع، ما يجعلها غير مناسبة تمامًا للاستخدام في المناطق المدنية. وتُعرف قنابل “MK-82” بأنها أدوات فتك جماعي لا تُستخدم عادة إلا ضد منشآت عسكرية أو أهداف ذات تحصين عالٍ.

لكن القصف استهدف “مقهى البقعة” في غزة، وهو منشأة مدنية تُعد مقصدًا شعبيًا للعائلات والشباب منذ أكثر من 40 عامًا. ويتكون المقهى من طابقين، أحدهما سطح مفتوح، ما يجعله هدفًا مرئيًا بوضوح من الجو، وهو ما يؤكد أن القوات الجوية كانت تدرك تمامًا طبيعته المدنية، وفق ما أشار إليه جيري سيمبسون من منظمة هيومن رايتس ووتش.

وفي هذا السياق، قال سيمبسون: “حينما يُقصف مقهى مزدحم بهذه الطريقة، فإن استخدام قنبلة بهذا الحجم لا يمكن أن يكون سوى إجراء عشوائي أو غير متناسب ويجب التحقيق فيه كجريمة حرب”.

شهادات قانونية تُدين الهجوم وتكشف زيف الرواية الإسرائيلية

التحقيق أشار إلى أن الجيش الإسرائيلي لم يوضح حتى الآن الهدف الحقيقي من الهجوم، لكنه زعم أنه “اتخذ إجراءات للحد من الأضرار الجانبية”، في محاولة لتقديم نفسه كجيش “أخلاقي”. غير أن فحص الحطام والموقع يشير إلى أن أحدًا لم يُبلَّغ بوجوب إخلاء المنطقة، كما لم تصدر أي تحذيرات مسبقة.

المؤشرات تُظهر أن عددًا كبيرًا من الضحايا كانوا من فئات مدنية بحتة: طفل في الرابعة من عمره، فتاة في الثانية عشرة، مخرجة أفلام، فنان، ربة منزل، وعشرات الجرحى من المارة. وفي القانون الدولي، تنص اتفاقيات جنيف صراحة على منع استخدام القوة بطريقة “غير متناسبة” مع الهدف العسكري. وقال الدكتور أندرو فورد، أستاذ قانون حقوق الإنسان: “حتى أفضل أنظمة الاستهداف في العالم لن تمنع المجازر عندما تُستخدم قنابل ثقيلة في مناطق مكتظة”.

أما مارك شاك، أستاذ القانون الدولي بجامعة كوبنهاغن، فاعتبر أن “تبرير استخدام هذا النوع من القنابل في هذا السياق المدني غير ممكن، إلا إذا كان الهدف على درجة بالغة من الأهمية العسكرية، وهذا لم يثبت أبدًا”، مؤكدًا أن إسرائيل كانت تُطبق معايير أكثر حذرًا حتى في العراق وأفغانستان عندما يتعلق الأمر باستهداف شخصيات رفيعة.

مقهى البقعة رمز الحياة الذي دمّره القصف.. وصمت العالم مستمر

ما يزيد من بشاعة الجريمة أن المقهى المستهدف لم يكن ضمن أي منطقة إخلاء أعلن عنها الجيش الإسرائيلي، ولم تُسجّل فيه أي نشاطات لمجموعات مسلحة، ما يعزز من فرضية أن القصف لم يكن بسبب “ضرورة عسكرية ملحّة”، بل انتقام جماعي بغطاء أمني وبدون مساءلة.

كان “مقهى البقعة” بمثابة مساحة تنفّس نادرة وسط الحصار الخانق الذي تعانيه غزة منذ سنوات، يقدم مشروبات بسيطة ويطل على الشاطئ، ليمنح الزوار لحظات من الهدوء في مدينة محاصرة. غير أن القنبلة التي سقطت عليه دمّرت المكان تمامًا، وحوّلته إلى حفرة واسعة وجثث متفحمة.

وفي ظل هذا المشهد، يتساءل كثيرون: أين الموقف الدولي؟ لماذا لا تتحرك الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو المحكمة الجنائية الدولية في مواجهة الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي؟ وإذا كانت قنبلة بهذا الحجم تُلقى على مقهى مدني مكتظ، فما الذي يمنع تكرار الجريمة في مستشفى، أو مدرسة، أو مخيم للنازحين؟

اللافت أن العالم لا يزال يتفرّج. الإدانات خافتة، والعدالة غائبة، بينما تواصل إسرائيل قصفها باستخدام ترسانة تدمير شامل، وسط إفلات كامل من العقاب. وبينما تُدفن جثامين الأبرياء، يكتفي البعض بالحديث عن “التحقيقات الداخلية”، في مشهد يعكس انهيارًا أخلاقيًا ونفاقًا دوليًا يساهم في استمرار المذبحة.

خاتمة:

حادثة قصف “مقهى البقعة” ليست مجرد هجوم عرضي، بل نموذج صارخ لوحشية الاحتلال واستخفافه الكامل بالقانون الدولي والكرامة الإنسانية. استخدام قنبلة تزن 500 رطل في مكان مدني يُعَدّ إعلانًا صارخًا بأن أرواح الفلسطينيين لا تُحسب، ما لم يتحرّك المجتمع الدولي لمحاسبة إسرائيل على جرائمها المتكررة، فإن مأساة غزة ستتكرر مرارًا، وبأشكال أكثر دموية.