العدسة_ محمد العربي

تمثل التحركات المكوكية لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد داخل القارة الإفريقية وخارجها، وخاصة مع الدول المرتبطة بالقرن الإفريقي، تطورًا هامًا على صعيد إعادة تشكيل قوى النفوذ في واحدٍ من أهم الممرات البحرية على مستوى العالم، وتأتي زيارة آبي أحمد لإريتريا وإنهاء حالة الصدام والحروب بين البلدين لتشير إلى أن أديس أبابا تعلن عن نفسها كواحدةٍ من أهم دول التأثير في القرن الإفريقي، وهو ما يمثّل خطرًا على دول أخرى وجدت في غياب إثيوبيا عن المشهد خلال الأعوام الماضية فرصةً لبسط نفوذها على موانئ البحر الأحمر، من أهمها الإمارات العربية المتحدة.

الرقم واحد إفريقيًا

وطبقًا لمتابعين للشأن الإثيوبي فإنَّ آبي أحمد الذي لم يكمل شهره الرابع بالحكم، يسير وفق خطط واضحة لاستعادة إثيوبيا للرقم واحد بين الدول الأكثر تأثيرًا في القارة السمراء، وفي سبيل ذلك بدأ في تصفير المشاكل التي كانت تحيط ببلاده، وخاصة مع دول الجوار الساخنة مثل السودان، وإريتريا، والصومال، وجيبوتي، لتعود إثيوبيا مرة أخرى لتطل على البحر الأحمر بعد أن فقدته طوال 27 عامًا منذ انفصال إريتريا عن إثيوبيا.

وتشير تحركات آبي أحمد إلى أنَّه لا يسعى لإنهاء المشاكل مع دول الجوار فقط، وإنما أيضًا باستغلال هذه الدول لدعم التطور الاقتصادي لإثيوبيا في ظل احتلالها مركزًا متقدمًا بين الدول الأكثر نموًا في العالم خلال السنوات الماضية، وهو ما دفع آبي أحمد لاستغلال كل إمكانيات الدول العاملة بمنطقة القرن الإفريقي، سواء الأصيلة في هذه المنطقة، أو التي وضعت أقدامها من خلال استئجار موانئ وقواعد عسكرية مثل الإمارات وقطر وتركيا والصين.

ويؤكّد المتابعون أن الاتفاق الذي وقّعته إثيوبيا في الأول من آيار/ مايو الماضي مع كلٍّ من هيئة موانئ دبي العالمية، وإقليم أرض الصومال، وسمح لإثيوبيا بالاستحواذ على 19% في ميناء “بربرة” الصومالي، مقابل 51% لموانئ دبي، والنسبة المتبقية لأرض الصومال، وما أعلنته الإمارات بعدها من دعم إثيوبيا باستثمارات تقدَّر بثلاثة مليارات دولار، لا يعني ذلك أن إثيوبيا تقبل بالوجود الإماراتي المقلق بالبحر الأحمر، وخاصة سيطرتها على الموانئ اليمنية التي تمثل أهمية لإثيوبيا نتيجة العلاقات التاريخية والجغرافية بين إثيوبيا واليمن.

شركاء بحدود

ويرى المراقبون أن إثيوبيا التي لعبت دورًا في إتمام الاتفاق بين الإمارات وإقليم وأرض الصومال، لم يكن هدفها دعم التواجد الإماراتي أكثر منه إيجاد موضع قدم لإثيوبيا الحبيسة في مياه البحر الأحمر الذي ينقل 17% من التجارة العالمية بقيمة 2.4 تريليون دولار سنويًا، خاصة وأن إثيوبيا كانت تعتمد في معظم تجارتها الخارجية على ميناء جيبوتي، ولأنَّ ميناء بربرة يبعد عن أديس أبابا نفس المسافة التي يبعدها ميناء جيبوتي، فإنَّ الاستحواذ على حصة بميناء بربرة له العديد من الفوائد لإثيوبيا، وما يؤكّد ذلك قيام إقليم “أرض الصومال” ببناء ممر تجاري يربط بربرة مع أديس أبابا عن طريق البر، وهو ما يساعد إثيوبيا لتنويع مصادر ترويج تجارتها بعد أن كان ميناء جيبوتي يستحوذ على 95% من التجارة الصادرة والواردة لإثيوبيا، وهو ما كان يُكلّفها 16% من قيمة تجارتها الخارجية بما قيمته 1.5 مليار دولار، وهو ما دفع إثيوبيا لتوقيع اتفاقية مع حكومة جيبوتي بالاستحواذ على نسبة من الميناء مقابل استحواذ جيبوتي على نسبة من أسهم شركة الخطوط الجوية الإثيوبية التي تعدّ الأكبر في القارة، وبناءً على هذا الاتفاق الذي جرى في نيسان/ أبريل الماضي أعلنت جيبوتي إقصاء شركة موانئ دبي التي كانت تستحوذ على الميناء.

لماذا إريتريا

وطبقًا لمتابعين للقرن الإفريقي فإنّه في ظل رغبة أديس أبابا التحول إلى مركز تصنيع مزدهر بالقارة، فإنها تتجه لمعالجة إحدى أكبر مشاكلها المتمثلة في الموانئ، وهي الخطة التي بدأتها منذ عام 2015 بدعم من البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لاستخدام موانئ متعددة في البلدان المجاورة، سواء المطلة على البحر الأحمر كموانئ جيبوتي وبربرة، أو الأخرى المطلة على المحيط الهندي مثل ميناء “مومباسا” شرق كينيا.

ونظرًا لأنَّ هذه الموانئ تحتاج لإجراءات أخرى مثل إيجاد طرق برية جيدة وسريعة، وكذلك مدّ خطوط للسكك الحديدية مع كينيا تحديدًا، كان لازمًا على إثيوبيا أن تبحث عن بدائل أكثر أمنًا وأسهل وأسرع، مما دفعها لإنهاء الصراع التاريخي مع إرتيريا بتفعيل اتفاق المصالحة الذي وقّعته أديس أبابا وأسمرة عام 2000، وبهذه الخطوة استطاعت أن تصطاد أكثر من عصفور بحجر واحد؛ فهي بجانب إنهاء الصراع مع أهم جارة لها، وفتح آفاق جديدة من التعاون الاقتصادي بين البلدين، فإنّها تغلق باب المعارضة الإثيوبية المسلحة المتواجدة بأسمرة، والتي كانت تدعمها الإمارات ومصر، وكادت أن تصل لحدّ التهديد بحرب بين السودان وإثيوبيا من جانب وإريتريا بدعم مصري وإماراتي من جانب آخر، وهي الحرب التي كان مقصودًا منها تأديب السودان لتأجيرها ميناء سواكن لصالح تركيا، وتهديد إثيوبيا بسبب سدّ النهضة.

وبالتالي جاء اتفاق تفعيل المصالحة بعد زيارة آبي أحمد لأسمرة ليمثل تهديدًا صريحًا للتواجد الإماراتي بالبحر الأحمر بشكل عام وإريتريا بشكل خاص، التي بات عليها أن تقوم بتحديد أين تضع أقدامها في المنافسة الإماراتية والإثيوبية على الموانئ الإريترية، وتحديدًا ميناء عصب الاستراتيجي الذي تعتبره إثيوبيا استكمالًا لسلسة الموانئ التي تمتلكها إثيوبيا على البحر الأحمر رغم أنها دولة غير ساحلية.

الدور المشبوه لموانئ دبي

ويرى المتابعون أن هذه التحركات الإثيوبية المتعددة في منطقة القرن الإفريقي، تمثل تهديدًا على المدى البعيد للسيطرة الإماراتية على موانئ الدول التي تتقاسم هذه المنطقة الساخنة، خاصة وأن إثيوبيا بدأت تلعب أدوارًا متعددة في إعادة رسم خريطة المنطقة مرة أخرى، وهو ما يؤكده دورها في الأزمة التي جرت بين الإمارات وأرض الصومال حول ميناء بربرة، والتي انتهت بحصول إثيوبيا على حصة من الميناء بعد أن كان حكرًا لموانئ دبي فقط.

وطبقًا لمختصين بمنطقة القرن الإفريقي فإنَّ الإمارات توسعت في هذه المنطقة منذ عام 2015 بشكل لافتٍ للنظر، وقدَّمت العديد من الإغراءات المالية لدول إفريقية فقيرة من أجل أن يكون لها أكثر من تواجد على سواحل البحر الأحمر، ثم وسّعت من نفوذها بعد السيطرة على موانئ اليمن وبالتالي باب المندب، وهو دور- وإن بدا في ظاهره اقتصاديًا- إلا أنه يخدم مخططًا إسرائيليًا قديمًا في السيطرة على البحر الأحمر من جنوبه لشماله.

وفي هذا الإطار استطاعت هيئة موانئ دبي تنفيذ عقود احتكارية لموانئ بمصر واليمن وجيبوتي وأرض الصومال وإريتريا، ما يعني أنَّ أربع دول فقط تقع على البحر الأحمر لم تدخل إليها الإمارات وهي السعودية والأردن والسودان وإسرائيل، وهو ما يشير إلى أنَّ اهتمام الإمارات بمنطقة شرق وجنوب البحر الأحمر كان الهدف منه التحكم في حركة المرور، وما يدلّ على ذلك القواعد العسكرية التي أنشأتها في معظم الدول التي استأجرت منها الموانئ.

ورصد تقرير أعدَّه معهد “ستراتفور” الأمريكي التوسع العسكري الإماراتي في القرن الإفريقي، وذلك من خلال القواعد العسكرية باليمن أو إريتريا، وتحديدًا في جزر دهلك التي أجرت فيها الإمارات ميناءها الرئيسي، وكذلك معتقل وسجن نخرة بمنطقة أرخبيل دهلك، وقامت بتجهيزه في صورة أقرب لجوانتانامو ونقلت إليه مخالفيها من اليمنيين.