لطالما كانت مصر حليفًا جيوستراتيجيًا مهمًا للولايات المتحدة بسبب موقعها الجغرافي الفريد، وقناة السويس الحيوية، وتراثها التاريخي والثقافي، وكونها أكبر دولة في العالم العربي سياسيًا وديموغرافيًا.  كما أن مصر هي ثاني أكبر متلق للمساعدات العسكرية الأمريكية بعد إسرائيل، كما أنها أصبحت وسيطًا مهمًا في بعض الصراعات الإقليمية، مثل وقف إطلاق النار في حرب غزة والأزمة في ليبيا.

 وهذا الدور المهم يسلط الضوء على أهمية الحوار الاستراتيجي الثنائي الأخير بين البلدين وتغطيته الإعلامية الواسعة، والتي ركزت في أغلب الأحيان على جوانب الاتفاق. ولكن مع ذلك، من المهم بنفس القدر تسليط الضوء على المعضلات والاختلافات التي لم يتم حلها.

 

تأطير الحوار في الإعلام المصري مقابل الإعلام الغربي

احتفلت وسائل الإعلام المصرية الرسمية التابعة للحكومة بإجراء هذا الحوار كعلامة على علاقة مصر القوية بالولايات المتحدة، وتطرقوا إلى تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن حول أهمية التعاون مع مصر، وتصريحات وزير الخارجية المصري سامح شكري حول متانة العلاقات الثنائية بين البلدين، وأشادوا أيضًا بهذه التصريحات المشتركة التأكيدية كدليل على أن العلاقات الثنائية لم تتضاءل في ظل إدارة بايدن.

لقد استخدموا هذا الحوار بلباقة لإرسال رسالة مفادها أن علاقة مصر بالولايات المتحدة ليست فقط “لا غنى عنها”، بل إن مصر نفسها حليف لا غنى عنه للولايات المتحدة، كما وصف وزير الخارجية المصري، مما أدى إلى تعزيز الأهمية الجيوسياسية لمصر في مواجهة النفوذ المتزايد للدول العربية الأخرى، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

ومع ذلك، أكدت بعض المصادر الغربية أن كلا الجانبين لم يتفقا على بعض القضايا الملحة، مثل سجل مصر في مجال حقوق الإنسان، والانقلاب العسكري في السودان، ومفاوضات سد النهضة الإثيوبي، وتعاون مصر المتزايد اقتصاديًا وعسكريًا مع الصين وروسيا على التوالي، وهو الأمر الذي لا تشعر الولايات المتحدة بالراحة نحوه. لهذا وصفت بعض وسائل الإعلام الغربية هذا الحوار بأنه “يعالج مشكلات لا تعد ولا تحصى” بين البلدين، وأنه يأتي وسط توترات بشأن السودان وحقوق الإنسان.

 

مشاكل حقوق الإنسان في مصر

 يُعزى سجل حقوق الإنسان المتدهور في مصر إلى عدد كبير من التدابير القمعية، وحث الخارجية بلينكن على رفع سجل مصر في مجال حقوق الإنسان باعتباره قضية رئيسية خلال الحوار الاستراتيجي.

 لكن وزير الخارجية المصري، سامح شكري، صرح خلال الحوار الاستراتيجي أن أجندة مصر الحقوقية ستمليها أولوياتها واحتياجاتها، مشيرًا إلى أنه لا يرحب بتدخل الدول الأخرى في هذا الأمر، ونفس هذه الرسالة نقلها الرئيس السيسي في وقت سابق في لقاء مع قادة الاتحاد الأوروبي.

 وبسبب هذه الاختلافات، أكد سامح شكري على ضرورة عقد مثل هذه النقاشات بشكل خاص وليس علنيًا، لتجنب “العار العام الذي لا يؤدي إلا إلى خلق مواقف سلبية في مصر”.

 على الرغم من أن مصر قد تبنت بعض الإجراءات الرمزية في الآونة الأخيرة، مثل إطلاق استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان، إلا أن عشرات الآلاف من السجناء السياسيين لا يزالون خلف القضبان، ومن بين هؤلاء شخصيات سياسية بارزة، مثل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، الذي تدهورت حالته الصحية بشكل كبير، والناشط السياسي والمدون علاء عبد الفتاح، الذي تتعرض حياته للخطر داخل الحبس.

ومع ذلك، ظل موقف الولايات المتحدة من حقوق الإنسان في مصر نظريًا فقط، وليس عمليًا، مما خيب آمال بعض نشطاء حقوق الإنسان الذين كانوا يحثون الولايات المتحدة على استخدام نفوذ مساعدتها العسكرية لمصر، لممارسة الضغط اللازم على النظام المصري.

 آثار قرار إدارة بايدن بحجب المبلغ الرمزي البالغ ١٣٠ مليون دولار فقط من المساعدات العسكرية السنوية لمصر البالغة ١.٣ مليار دولار، انتقادات من منتقدي النظام المصري ومؤيديه، فمنتقدو النظام المصري اعتبروا ذلك صفعة مخيبة للآمال، فيما انتقد أنصاره التناقض مع إفلات إسرائيل التام من العقاب، على الرغم من انتهاكاتها لحقوق الإنسان.

 

 مواقف متباينة من انقلاب السودان

 سرعان ما أدانت الولايات المتحدة ما حدث في السودان، ووصفته بأنه انقلاب، تمامًا كما وصفت مصادرة الرئيس التونسي للسلطات بانقلاب، على عكس الانقلاب العسكري في مصر في عام ٢٠١٣، مما أثار بعض الانتقادات لسياستها الشبيهة بالحرباء. ومما لا يثير الدهشة أن مصر ابتعدت عن هذا التصنيف واختارت أن تطلب فقط من جميع الأطراف في السودان التزام الهدوء وتجنب العنف.

 علاوة على ذلك، ذكر مقال في صحيفة وول ستريت جورنال أن هناك محادثات سرية بين الرئيس السيسي والجنرال برهان قبل يوم واحد من الانقلاب عندما سافر البرهان إلى مصر للحصول على “الضوء الأخضر” لخطته.

والجدير بالذكر أن مصر امتنعت عن التوقيع على بيان مشترك صاغته الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، يحث هذا البيان على إعادة تشكيل حكومة بقيادة مدنية في السودان. وعلى عكس بلينكن الذي ذكر السودان في ملاحظاته الختامية عقب الحوار، قائلًا إن البلدين “لديهما مصلحة مشتركة في الانتقال الديمقراطي في السودان”، لم يذكر شكري السودان، وركز بدلًا من ذلك على التعاون المتبادل.

 رحبت مصر على الفور بإعادة المجلس العسكري لرئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك كخطوة نحو استعادة الاستقرار، ومع ذلك، مع الاحتجاجات والمقاومة الشعبية في السودان ضد هذه الخطوة، يجب أن يؤخذ هذا الدعم المصري بحذر، لأنه قادم من بلد انحرف فيه الجيش عن مسار الديمقراطية، باستخدام تكتيكات مماثلة.

 هذه الخطوة الجديدة ضيقت الهوة بين الموقفين المصري والأمريكي من أزمة السودان، وذلك منذ أن أشارت الولايات المتحدة إلى أنها “متشجعة” لذلك. ومع هذا، فإن التطورات الجديدة في السودان ستحدد ما إذا كانت هذه الفجوة ستتسع أم تتقلص.

 

 توقف التقدم في مفاوضات السد الإثيوبي

 إحدى القضايا الرئيسية بالنسبة لمصر قضية “سد النهضة الإثيوبي الكبير” (GERD)، الذي خلق نزاعًا لم يتم حله بين إثيوبيا من جهة، ومصر والسودان من جهة أخرى.

مع خطة إثيوبيا لبدء الملء الثالث لهذا السد العام المقبل، والتقدم المحدود على جبهة المفاوضات، حتى الآن كانت مصر تأمل أن تلعب الولايات المتحدة دورًا حاسمًا في حل هذه الأزمة.

 ومع ذلك، لخيبة أمل مصر بين اندلاع العنف على نطاق واسع في إثيوبيا، والتحديات الداخلية العديدة للولايات المتحدة، والانقلاب العسكري في السودان، فإن التوقيت لا يمكن أن يكون أسوأ بالنسبة لأي خطوة في هذه القضية الحاسمة.

 

 ماذا بعد؟

 إن زيادة التعاون الاقتصادي لمصر مع المنافس الاقتصادي الرئيسي للولايات المتحدة، الصين، من خلال توقيع اتفاقيات فنية واقتصادية جديدة مؤخرًا، أمر أثار قلق الولايات المتحدة، وما يثير قلقها أكثر هو زيادة التعاون العسكري والاقتصادي وتوثيق العلاقة مع روسيا.

 لذلك، بعيدًا عن كونه حوارًا متناغمًا تمامًا، والذي كان كل من شكري وبلينكين يبتسمان من خلاله، كما هو موصوف في بعض وسائل الإعلام، كان هناك أيضًا اختلافات كبيرة ومعضلات لم يتم حلها، والتي تم التقليل من شأنها عن قصد لرسم صورة  حوار مثالي وعلاقة مثالية بنفس القدر لتعزيز المصالح الإستراتيجية المتبادلة.

 عندما أصبح بايدن الرئيس الجديد للولايات المتحدة، كان هناك العديد من التكهنات حول أسلوبه الجديد في القيادة، وخاصة في مجال السياسة الخارجية، مما طرح السؤال الملح حول ما إذا كان بإمكاننا أن نشهد فصلًا جديدًا في العلاقات المصرية الأمريكية، أم إنه سيستمر في نفس مسار الإدارات الأمريكية السابقة، التي دعمت في الغالب الديكتاتوريات العربية على حساب حقوق الإنسان، طالما أنها تخدم المصالح الأمريكية.

على الرغم من وجود بعض التحولات الخطابية في الخطاب السياسي الأمريكي الأخير بشأن مصر، مع إصدار الحكومة الحالية بيانات تؤكد على الحاجة إلى مزيد من الديمقراطية وسجل أفضل في مجال حقوق الإنسان في مصر، على عكس الرئيس السابق ترامب الذي وصف الرئيس السيسي بـ “الديكتاتور المفضل لديه”، لم سياسة أمريكا تجاه مصر أي تحولات مهمة.

 بعض منتقدي السياسة الخارجية الأمريكية المتمثلة في الإمساك بالعصا من الوسط عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط، بما في ذلك النظام المصري، يزعمون أنها تضع على المحك التزام الإدارة الحالية بالمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبالمقابل مصداقيتها الدولية وسلطتها الأخلاقية التي كان من المتوقع أن تأخذ منعطفًا أفضل تحت شعار الرئيس الجديد بايدن “أمريكا عادت”.

 ومع ذلك، وبعيدًا عن العودة إلى الساحة الدولية كقائد قوي، تتصارع الولايات المتحدة مع مزيج فريد ومؤسف من التحديات الداخلية، والتي لها تأثير معوق على قيادتها الدولية وسلطتها الأخلاقية، بما في ذلك قدرتها على إملاء  قواعد اللعبة على دول أخرى في مجال الديكتاتورية والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.

 على الرغم من بعض الاختلافات البارزة والمعضلات التي لم يتم حلها بين البلدين، فمن السابق لأوانه التنبؤ بأي تحولات مهمة في العلاقة البراغماتية المحسوبة بعناية بين الولايات المتحدة ومصر، والتي تستمر في إعطاء الأولوية للمصالح المشتركة، مثل الحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط، والمشاركة في جهود مكافحة الإرهاب، وإقامة علاقات قوية مع الكيان الصهيوني حول القيم، مثل قيم الالتزام بالديمقراطية وحماية حقوق الإنسان والحريات المدنية. في النهاية لا يوجد سبب لتوقع حل معضلة الديمقراطية والأمن هذه بتفاؤل في أي وقت قريب.