في تقرير جديد أثار صدمة في الأوساط الحقوقية والدولية، كشفت الأمم المتحدة عن تورط أكثر من 60 شركة عالمية كبرى في تسهيل جرائم الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، وتحديدًا في الحرب الدموية المستمرة على غزة.
التقرير، الذي أعدته المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيزي، لم يكتفِ بالتلميح، بل سمّى شركات عملاقة، بينها غوغل، مايكروسوفت، لوكهيد مارتن، كاتربيلر، وآي بي إم، متهمًا إياها بتقديم دعم مباشر أو غير مباشر للمستوطنات والانتهاكات بحق المدنيين، ما يرقى إلى مستوى “التواطؤ في الإبادة الجماعية”.
الربح من الدم: كيف تورطت الشركات؟
لم تكن الاتهامات رمزية أو فضفاضة، بل مبنية على أكثر من 200 وثيقة ومذكرة مقدّمة من دول ومنظمات غير حكومية وأكاديميين وخبراء في القانون الدولي. خلصت هذه الوثائق إلى أن بعض الشركات تجني أرباحًا طائلة من خلال علاقاتها التعاقدية أو التكنولوجية مع الجيش الإسرائيلي أو السلطات في تل أبيب، متغاضية عن حقيقة استخدام منتجاتها أو خدماتها في قصف المدنيين أو هدم المنازل أو مراقبة الفلسطينيين والتجسس عليهم.
لوكهيد مارتن، أكبر شركة للصناعات العسكرية في العالم، جاءت في مقدمة المتهمين، إذ ورد أنها زوّدت الاحتلال بأسلحة يُرجّح أنها استخدمت في الغارات على غزة، ما يتنافى مع المبادئ الأخلاقية والقانونية المرتبطة بتجارة السلاح. كذلك، شملت الاتهامات شركة كاتربيلر الأميركية وهيونداي الكورية الجنوبية، اللتين تُقدّمان معدات ثقيلة ساعدت في تدمير بنى تحتية فلسطينية ومنازل مدنيين، بما في ذلك خلال اجتياحات الضفة الغربية وغزة.
أما شركات التكنولوجيا مثل غوغل وأمازون وآي بي إم ومايكروسوفت، فاتهمها التقرير بتوفير منصات رقمية وخدمات حوسبة سحابية تُستخدم في دعم أنظمة المراقبة العسكرية الإسرائيلية، التي تستهدف الفلسطينيين وتسهّل عمليات الاستهداف الميداني.
ورغم محاولات بعض هذه الشركات التبرؤ من الاستخدام العسكري لخدماتها، كما فعلت غوغل في تصريح سابق، إلا أن الأمم المتحدة ترى أن مجرد التعاون التقني مع جيش يواجه اتهامات بالإبادة الجماعية هو أمر مرفوض أخلاقيًا وقانونيًا.
إسرائيل وأمريكا تردّان بعنف: الدفاع عن “تجارة القتل”
وردًا على التقرير، شنّت إسرائيل والولايات المتحدة هجومًا حادًا ضد ألبانيزي والتقرير الأممي، واصفة إياه بـ”المضلل والمتحيز”. فبينما ادعت البعثة الإسرائيلية في جنيف أن التقرير يحتوي على “مغالطات قانونية”، ذهبت البعثة الأمريكية إلى ما هو أبعد، إذ طالبت الأمين العام للأمم المتحدة بإقالة ألبانيزي، واتهمتها بشن “حرب اقتصادية” ضد الشركات العالمية المتعاملة مع إسرائيل.
ويكشف هذا الموقف حجم الرعب من تبعات التقرير، خصوصًا في ظل حديث متزايد عن إمكانية الاستفادة منه أمام المحاكم الدولية، لاسيما المحكمة الجنائية الدولية التي تحقق حاليًا في جرائم الحرب المرتكبة في الأراضي الفلسطينية. ويخشى كثيرون من أن تتحوّل الأدلة الواردة في التقرير إلى أداة للملاحقة الجنائية أو العقوبات الدولية على الشركات أو الدول المتورطة، وهو ما ترفضه واشنطن وتل أبيب بشكل قاطع.
من الحرب إلى المحكمة.. هل تتغير قواعد اللعبة؟
رغم أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لا يملك صلاحيات تنفيذية مباشرة، إلا أن تقاريره غالبًا ما تُستخدم لاحقًا كأساس قانوني في ملفات التقاضي الدولي أو كأداة ضغط سياسي وإعلامي. ولذلك، فإن عرض هذا التقرير أمام المجلس قد يفتح الباب أمام تحركات من قبل دول أو منظمات حقوقية لمساءلة هذه الشركات قضائيًا، أو على الأقل، وضعها تحت المجهر الإعلامي والحقوقي.
التقرير يأتي كذلك في ظل فظائع إنسانية مستمرة في قطاع غزة، حيث تجاوز عدد الشهداء وفق وزارة الصحة المحلية 56 ألفًا، غالبيتهم من النساء والأطفال، فضلًا عن دمار شبه كامل للبنية التحتية، في وقت تصر فيه إسرائيل على أن عملياتها العسكرية تندرج ضمن “حق الدفاع عن النفس”.
لكن ألبانيزي قدمت رواية مناقضة تمامًا، مؤكدة أن استمرار هذه الجرائم ليس فقط بسبب العجز الدولي، بل أيضًا لأنها أصبحت مشروعًا ربحيًا لعدد كبير من الكيانات الاقتصادية التي تعيش على أنقاض الجثث. وكتبت بصراحة لافتة: “ما تُسمّى بالإبادة الجماعية تستمر ببساطة لأنها مربحة لكثير من الأطراف”.
خاتمة: حين يصبح الدم تجارة
ما كشفه التقرير الأممي لا يُفترض أن يمر مرور الكرام. فحين تتحول أرواح الأبرياء إلى أرقام في دفاتر الأرباح، وحين تصبح تقنيات الذكاء الاصطناعي والمراقبة أدوات لتسهيل القتل، فإن العالم يواجه أزمة أخلاقية تتجاوز حدود السياسة.
وفي وقت تسعى فيه حركات المقاطعة إلى فرض عزلة اقتصادية على الاحتلال، يأتي هذا التقرير ليمنحها دفعة قانونية ومعنوية كبيرة، ويوسّع معركتها من قاعات الجامعات إلى قاعات المحاكم.
قد لا يسقط الاحتلال بهذه الوثائق، لكنه لن يكون قادرًا بعد اليوم على الادعاء بأنه وحده المسؤول، فالعالم بات يعلم من يموّل ومن يربح.. ومن يقتل بصمت.
اقرأ أيضًا : كارثة صحية جديدة في غزة.. الحمى الشوكية تفتك بالأطفال وسط حصار خانق
اضف تعليقا