بينما كان الإسرائيليون يتأهبون لمساء آخر تحت وقع صفارات الإنذار، انهالت عليهم أربع موجات صاروخية إيرانية متتالية خلال 20 دقيقة فقط، من الشمال إلى الجنوب، لتعيد رسم مشهد الحرب بقسوة غير مسبوقة، ولتكشف عن خلل واضح في منظومات الحماية، بل وفي قدرة إسرائيل على الصمود تحت ضغط نيران دقيقة ومكثفة تستهدف منشآت حيوية وتسبب ارتباكاً واسع النطاق في الحياة اليومية والبنية التحتية.

وبحسب القناة الـ13 الإسرائيلية، فقد ضربت أربعة صواريخ مواقع حيوية، منها 3 في الجنوب وواحد في الشمال، وسط تقديرات تشير إلى إطلاق نحو 15 صاروخًا من إيران في تلك الموجات وحدها، إضافة إلى مئات الصواريخ والطائرات المسيّرة التي أُطلقت منذ بداية التصعيد الإيراني الأخير، بعد الهجمات الإسرائيلية على منشآت نووية وقواعد عسكرية إيرانية منذ 13 يونيو/حزيران.

 

ضربة للبنية التحتية.. الكهرباء تنقطع وصافرات لا تتوقف

الضربة الإيرانية الجديدة لم تكتفِ باستهداف مواقع عسكرية، بل ضربت في العمق المدني والاقتصادي. شركة الكهرباء الإسرائيلية أعلنت أن منشأة إستراتيجية تابعة لها في الجنوب تعرضت للقصف، مما أدى إلى اضطرابات في تزويد الكهرباء، خاصة في مدينة أسدود، حيث انقطعت الكهرباء عن 8 آلاف منزل. هذا المشهد غير المعتاد في مدينة إسرائيلية رئيسية يثير القلق حول قدرة الاحتلال على حماية قطاعاته الحيوية من الهجمات الصاروخية المتكررة.

وزير الطاقة الإسرائيلي لم يجد أمامه سوى الإعلان عن الخسائر، فيما أعلنت الجبهة الداخلية أن صفارات الإنذار دوت لفترة اعتُبرت الأطول منذ بداية المواجهة مع إيران، في مؤشر واضح على حجم الصواريخ التي أُطلقت من أراضٍ إيرانية باتجاه الأراضي المحتلة، ومدى تعقيد التصدي لها رغم تفوق الاحتلال التكنولوجي.

الجيش الإسرائيلي قال إن المنظومات الدفاعية عملت على اعتراض عدد من الصواريخ، إلا أن هذا التصريح لم يبدد مخاوف الداخل، خاصة مع تضرر مطار بن غوريون في تل أبيب، إذ علقت خمس طائرات هبوطها، في واقعة تكررت خلال الأيام الأخيرة، ما يشير إلى شلل جزئي في قطاع النقل الجوي.

رسائل نارية من طهران.. ضربات انتقائية وشلل في الجبهة الداخلية

ما يميز الضربات الإيرانية المتتالية أنها تحمل رسائل دقيقة وغير عشوائية. ففي الوقت الذي يحرص فيه الإعلام الإسرائيلي على الحديث عن اعتراضات “ناجحة”، فإن الواقع الميداني يشير إلى أن الصواريخ الإيرانية اخترقت المنظومة الدفاعية الإسرائيلية، وضربت أهدافاً مدنية وإستراتيجية على السواء.

سقوط صواريخ في صفد شمالاً، وحرائق ناجمة عن شظايا الاعتراضات في مناطق مفتوحة، كلها إشارات إلى أن الدفاعات الجوية الإسرائيلية تعاني من الإرهاق وربما من العجز أمام الكم الهائل والدقة العالية للصواريخ والمسيّرات الإيرانية.

كما أن استهداف مناطق في السهل الساحلي ووسط إسرائيل، بما فيها قرب القدس المحتلة، يشير إلى أن طهران توسع من مدى ضرباتها وتختار أهدافاً شديدة الحساسية سياسياً ومعنوياً.

دعوات الجبهة الداخلية للإسرائيليين بالبقاء في الملاجئ تؤكد أن الحكومة لم تعد قادرة على احتواء الموقف ميدانيًا، كما تعكس حالة من الذعر وانعدام الثقة في قدرة الجيش على التصدي الكامل للهجمات، رغم امتلاكه لأنظمة اعتراض من الجيل الأحدث مثل “القبة الحديدية” و”مقلاع داوود”.

حسابات الردع تنهار.. وإيران تفرض معادلة جديدة بالقوة

منذ أن بدأت إسرائيل حملة القصف على إيران في 13 يونيو/حزيران، مستهدفة منشآت نووية ومقار عسكرية وقادة بالحرس الثوري وعلماء نوويين، بدا أن تل أبيب تراهن على تحييد الرد الإيراني أو على الأقل احتوائه عبر الضغط الدولي، خاصة من الولايات المتحدة. 

لكن ما حدث هو العكس تمامًا، إذ ردت إيران بإستراتيجية تصعيدية غير معهودة، أطلقت خلالها أكثر من 500 صاروخ وألف مسيّرة نحو العمق الإسرائيلي، وأثبتت قدرتها على تهديد المنشآت الحيوية بل وتحييد بعض منظومات الدفاع.

إيران تُوجّه ضرباتها بشكل يحاكي التكتيك الإسرائيلي في غزة ولبنان، لكنها تفوقت من ناحية الدقة والانتقائية، فلم تعد الضربات الإيرانية مجرد رسائل رمزية، بل أصبحت أدوات لتعطيل الدولة العبرية، وبث الرعب في مجتمعها الداخلي.

ومع كل موجة جديدة، يتضح أن الردع الإسرائيلي آخذ في الانهيار، وأن الحرب لم تعد تُدار كما أرادتها تل أبيب. فإيران، رغم العقوبات والحصار، تفرض معادلة ردع بالقوة النارية، وتعلن -بشكل غير مباشر- أن استهداف علمائها ومنشآتها لن يمر دون كلفة باهظة، وأنها تمتلك اليد الطولى في ضرب الداخل الإسرائيلي، متى شاءت.

خاتمة: من يملك زمام المبادرة؟

يتساءل المراقبون الآن: هل ما زالت إسرائيل هي صاحبة اليد العليا في المعادلة الإقليمية؟ أم أن إيران باتت تشكل تهديداً وجودياً يعيد ترتيب موازين القوة في الشرق الأوسط؟ المؤشرات تقول إن طهران تمكنت من توصيل رسائلها بدقة، فيما تعاني تل أبيب من مأزق مزدوج: داخليًا في إدارة الأمن والاستقرار، وخارجيًا في تآكل صورتها كقوة لا تُقهر.

وفيما تتجه الأنظار إلى ردود الفعل الدولية ومحاولات التهدئة، يبقى الداخل الإسرائيلي مشلولًا تحت وطأة صواريخ لا تعرف سقفًا، وخصمٍ لا يقبل بتوازن الردع، بل يفرضه بقوة الصدمة.

اقرأ أيضًا : إيران تُدخل “خيبر” على خط المواجهة مع الاحتلال: صاروخ تدميري يغيّر قواعد الاشتباك