في الساعة الثالثة من مساء 15 يوليو/تموز عام 1958، اقتحم 1700 من قوات المارينز الأمريكيين شواطئ بيروت، حيث كانوا جاهزين للقتال، ومحملين بالأسلحة، ومدعومين من قبل 70 سفينة حربية كاملة في البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك 3 حاملات طائرات.

أما في الولايات المتحدة، فقد كانت الفرقة 82 من القوات القابلة للنقل جوًا في حالة تأهب في حال الحاجة إلى مزيد من القوات.

ولكن ما واجهوه بالكاد كانت ساحة معركة، حيث سارعت المصطافات اللبنانيات والأجنبيات في حمامات الشمس، اللاتي كان بعضهن يرتدين البيكيني إلى ارتداء ملابسهن للتستر، وسرعان ما ظهر الباعة اللبنانيون بعربات تبيع السجائر والمشروبات الباردة والسندوتشات للجنود الأمريكيين، كما هرول العشرات من الصبية اللبنانيين المراهقين ليحدقوا في المشهد، متلهفين لمساعدة جنود المارينز في إعداد معداتهم.

كانت تلك أول عملية قتالية تقوم بها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، صحيح أن القوات الأمريكية كانت في الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية، ولكنها لم تشارك في عمليات قتالية، على سبيل المثال، قامت أمريكا ببناء قاعدة جوية في السعودية، لكنها لم تستخدم قط للقتال.

في ذلك التوقيت، لم يعتقد أي شخص في بيروت أو واشنطن، أن هذه المهمة ستشكل بداية لعقود من المهمات القتالية الأمريكية التي تبدو بلا نهاية في الشرق الأوسط، وبالنظر إلى الخلف، يتبين أن بيروت في عام 1958 كانت نقطة تحول حاسمة.

 

المشهد من واشنطن

على الرغم من أن الإنزال الأمريكي كان هزليًا، لكنه كان أيضًا خطيرًا، وكان لبنان في خضم حرب أهلية بين الطائفتين المسيحية والإسلامية، حيث رأى المسلمون المارينز كأعداء عازمين على إبقاء الرئيس المكروه “كميل شمعون” في منصبه، في حين رأى الجيش اللبناني، وهو تحالف هش للمسيحيين والمسلمين، المارينز كمعتدين غير مدعوين ينتهكون السيادة اللبنانية.

وكانت القيادة الأمريكية مستعدة للأسوأ وكانت تتجهز لنشر أسلحة نووية في ساحة المعركة من قاعدتها في ألمانيا.

في واشنطن، خاطب الرئيس “دوايت أيزنهاور”، بطل عمليات إنزال النورماندي في 1944، الأمة، وقبل عام من ذلك، أعلن “أيزنهاور” ما أصبح يعرف باسم “عقيدة أيزنهاور”، التي كانت بيان رئاسي يعلن أن أمريكا لها مصالح حيوية في الشرق الأوسط وستدافع عنها بالقوة إذا لزم الأمر.

وخلال خطابه، تطرق الرئيس إلى السبب المباشر لإرسال قوات المارينز إلى لبنان، وهو انقلاب 14 يوليو/تموز في بغداد الذي قتل خلاله الملك “فيصل الثاني” الموالي لأمريكا وأُطيح بحكومته.

وقال “أيزنهاور” إنه تم اكتشاف “مؤامرة عالية التنظيم للإطاحة بالحكومة الشرعية للملك حسين في الأردن”، والتي كانت متوحدة مع العراق آنذاك، وكانت وكالة الاستخبارات المركزية قد أحبطت المؤامرة المزعومة قبل عدة أسابيع من ذلك.

ثم التفت “أيزنهاور” إلى لبنان، وقال إن الرئيس “شمعون” طلب تدخلًا عسكريًا أمريكيًا لوقف “الحرب الأهلية التي أشعلتها إذاعات السوفييت والقاهرة”.

كانت هذه هي المرة الوحيدة التي ألمح فيها “أيزنهاور” إلى ما أثار قلقه حقًا في ذلك اليوم وهو القوة السياسية الصاعدة في العالم العربي لرئيس مصر الشاب صاحب الكاريزما “جمال عبدالناصر” وحركته القومية العربية.

بدلا من ذلك، تحدث الرئيس بلغة الحرب الباردة قائلا إن لبنان أصبح واقعا تحت طائلة التهديدات السوفيتية، ومثلما استولى السوفيت على تشيكوسلوفاكيا والصين، فإنهم هددوا لبنان.

وقال الرئيس إن على واشنطن أن تدافع عن لبنان، وإلا إنها ستسمح بصعود ديكتاتورية أخرى شبيهة لألمانيا النازية (أي السوفييت) من شأنها أن تؤدي بالتأكيد إلى حرب عالمية أخرى.

ولكن كان هناك تفسير أقل نزاهة لإرسال المارينز إلى لبنان، ولم يشر “أيزنهاور” إلى حقيقة أن “شمعون” كان يسعى بصورة غير قانونية إلى الحصول على فترة ولاية ثانية، بل ادعى أن “شمعون” لم يسعَ لإعادة انتخابه، وكان التركيز بالكامل على روسيا والحرب الباردة، وهي قضية يفهمها الأمريكيون أكثر بكثير من السياسة المعقدة في لبنان أو العالم العربي.

 

المشهد من مصر

في الوقت نفسه كان “ناصر” في يوغوسلافيا يزور الحكومة الشيوعية هناك، وفي غضون ساعات من خطاب “أيزنهاور”، سافر إلى موسكو حيث اتفق مع مضيفه “نيكيتا خروتشوف” على التبرؤ من أي صلة أو علم بانقلاب بغداد، ووفقًا للوثائق السوفيتية التي رفعت عنها السرية مؤخراً، اتفق كلاهما على أن الانقلاب العراقي كان أهم تطور في الشرق الأوسط وأن التدخل الأمريكي في لبنان كان هامشيا.

كان “ناصر”، في صيف عام 1958، في ذروة طموحه السياسي وقوته، ومن المفارقات أنه بدأ صعوده السياسي بالأساس في حماية الأمريكيين.

ولد “ناصر” في الإسكندرية عام 1918، ودخل في السياسة مبكرا كمناهض للاستعمار البريطاني لمصر، قبل أن يلتحق بالجيش ويحارب في حرب 1948 ضد (إسرائيل)، وكان “ناصر” هو كان العقل المدبر وراء انقلاب 1952 الذي أطاح بالملكية وأنشأ أول حكومة بقيادة مصرية منذ ألفي عام، كما كان وسيمًا ومفوهًا وجذابًا.

فوجئ البريطانيون تمامًا بالانقلاب الذي حدث في مصر، لكن وكالة المخابرات المركزية لم تكن كذلك حيث كانت قد اكتشفت علامات التغيير القادمة، تحركت الوكالة بسرعة بعد الانقلاب لإقامة اتصال مع “ناصر”، وكان الرجل الموكل بذلك في وكالة الاستخبارات المركزية هو الأسطوري “كيرميت (كيم) روزفلت”، وهو سليل من عائلة “روزفلت” ومولود في الأرجنتين.

وقد زار “كيم” القاهرة قبل الانقلاب وأقام اتصالاً مع الضباط الأحرار، في أكتوبر/تشرين الأول 1952، عاد إلى القاهرة كرئيس لقسم الشرق الأدنى بوكالة الاستخبارات المركزية، والتقى “ناصر” في فندق مينا هاوس الشهير بالقرب من الأهرامات. أعجب كل منهما بالآخر واتفقا على علاقة سرية.

كان “ناصر” قبل كل شيء قوميا مصريا مصمما على إزالة جميع بقايا الاستعمار البريطاني، بما في ذلك القاعدة العسكرية الكبيرة التي كانت لندن ما تزال تديرها في منطقة قناة السويس، كما تبنى وحدة الشعوب العربية من المغرب إلى عُمان كأيديولوجية لسياسته.

وكان “ناصر” معارضًا حازمًا للاستعمار الأوروبي في جميع أنحاء العالم، خاصة في أفريقيا، واعتقد “روزفلت” أن الولايات المتحدة يمكن أن تعمل مع “ناصر”.

بعد تنصيب “أيزنهاور” في يناير/كانون الثاني عام 1953، حصلت وكالة المخابرات المركزية على قيادة جديدة في صورة “ألن دالاس” شقيق وزير خارجية أيزنهاور “جون فوستر دالاس”.

عمل “ألن” سابقا في مكتب الخدمات الإستراتيجية التابع لوكالة المخابرات المركزية في سويسرا خلال الحرب العالمية الثانية، وكان مؤيدًا للعمل على تحقيق الأهداف الإستراتيجية الأمريكية من خلال العمليات السرية التي تقودها وكالة المخابرات المركزية، وبسبب قيادة “روزفلت” الناجحة لعملية وكالة الاستخبارات التي أطاحت بحكومة منتخبة ديمقراطيا في إيران وأعادت الشاه إلى عرشه في عام 1953، فإن ذلك جعله مقربا من “دالاس” و”آيزنهاور”.

تزامنا مع ذلك، زار وزير الخارجية “فوستر دالاس” مصر في مايو/أيار 1953 وأبدى إعجابه بـ”ناصر” أيضًا. ووافقت واشنطن على تشجيع البريطانيين على التخلي عن قاعدة قناة السويس، ورغم أن رئيس الوزراء البريطاني “وينستون تشرشل” كان مترددًا في البداية، فإن ديون المملكة المتحدة الضخمة الناجمة عن الحرب العالمية أرغمته على عقد صفقة ووافق الجيش البريطاني على مغادرة مصر في عام 1954، وكان “روزفلت” نشطًا وراء الكواليس في تسهيل الصفقة.

في ذلك التوقيت، أراد المصريون الحصول على أسلحة حديثة لجيشهم، وأعطت وكالة المخابرات المركزية لـ”ناصر” بضعة ملايين من الدولارات – أقل بكثير مما أراد – لشراء الأسلحة، وبدلاً من ذلك، استخدم “ناصر” المال لبناء جهاز إرسال كبير للبرنامج الإذاعي المصري “صوت العرب” وبث رسالته العربية والمعادية للاستعمار إلى المنطقة، وقد تم تسريب مصدر أموال البرج، وكان يطلق عليها أحيانا على سبيل التحكم اسم “بناية روزفلت”.

بحلول ذلك الوقت، كانت العلاقة بين واشنطن والقاهرة تتراجع بسرعة خاصة بعدما اتخذ “ناصر” خطوة حاسمة وقام بترتيب عملية شراء كبيرة للأسلحة من دولة تشيكوسلوفاكيا العميلة للاتحاد السوفيتي في عام 1955.

وقد أثار هذا قلق المنخرطين في الحرب الباردة في الغرب، خاصة “جون فوستر دالاس”، الذي رأى أن صفقة الأسلحة هي أول اختراق روسي كبير للشرق الأوسط، كما أثارت الصفقة جزع البريطانيين والفرنسيين، الذين رأوا مكانة “ناصر” المتنامية كتهديد لمستعمراتهم ومحمياتهم المتبقية في المنطقة مثل عدن (جزء من اليمن الحديثة) والجزائر والأردن والعراق.

وشعرت (إسرائيل) أيضا بالتهديد المباشر، ورغم معارضة “أيزنهاور” للعدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا و(إسرائيل) عام 1956، واعتباره ذلك بمثابة ارتداد للإمبريالية، فإن هذا الموقف لم يحسن علاقة واشنطن مع “ناصر”.

بحلول عام 1958، وهو عام العملية الأمريكية في لبنان، تطورت الصورة الأمريكية عن “ناصر” من مقاتل شجاع من أجل الحرية إلى اعتباره أداة شريرة لموسكو، وتهديدا للمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة بأسرها وفي العالم الثالث.

وفي وقت مبكر من ذلك العام، توحدت مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة وقام “ناصر” صراحة بدعوة الدول العربية الأخرى للانضمام إليهما، وسافر “ناصر” إلى سوريا واستقبله حشد كبير من المعجبين المتحمسين ، بما في ذلك 350 ألف لبناني (من إجمالي عدد السكان البالغ آنذاك 1.5 مليون).

وكشف عملاء المخابرات التابعين لـ”ناصر” عن مؤامرة تمولها السعودية لاغتياله، ما أحرج الملك “سعود” بشدة، وهو الرجل الذي كان “أيزنهاور” يأمل في أن يكون بديلاً مواليًا للولايات المتحدة عن مصر بالنسبة للجمهور العربي.

وقد اندلعت الحرب الأهلية في لبنان عندما صادق “شمعون” على عقيدة “أيزنهاور” وناشد الدعم الأمريكي لإعادة انتخابه، لذا، فقد كانت واشنطن متأهبة للغاية مع وقوع الأحداث التي هزت المنطقة بحلول الصيف.

 

المشهد من العراق والأردن

كان انقلاب 14 يوليو/تموز في بغداد صدمة كاملة، وكان من المقرر أن يمر لواء من القوات عبر العاصمة العراقية في طريقه إلى الأردن لمساعدة الملك “حسين” في مواجهة التهديد الذي يمثله “ناصر”، ولكن بدلاً من ذلك، عندما دخل العاصمة، انقلب الجيش على النظام الملكي وقاموا بمحاصرة القصر وقتل الملك والوصي على العرش.

وكانت دبابات القائمين على الانقلاب مغطاة بصور “ناصر”، كما هتفت الجماهير التي هتفت بزوال الملكية العراقية لـ”جمال عبدالناصر”، فيما لم يتكلم القادة العسكريون للانقلاب إلا قليلا.

كان الانقلاب مفاجأة سيئة لملك الأردن “حسين” الذي قتل أفراد عائلته بوحشية، وفي حين أنه أصبح الآن رسميًا ملك اتحاد العراق والأردن (الاتحاد العربي الهاشمي)، الذي تم إنشاؤه في أعقاب إعلان الجمهورية العربية المتحدة المكونة من سوريا ومصر.

في البداية، فقد فكر “حسين” في إرسال قوات إلى بغداد لعكس الوضع، لكن أصبح من الواضح أن الانقلاب كان له دعم شعبي ساحق وأنه حظي بدعم كامل من الجيش.

 

إلى واشنطن مجددًا

دفعت أنباء انقلاب العراق “أيزنهاور” إلى عقد اجتماع طارئ لمديري مجلس الأمن القومي بدأ بإحاطة من مدير وكالة المخابرات المركزية “ألن دالاس”، وقال “دالاس” إن المعلومات غير مكتملة للغاية، لكن الانقلاب قطع رأس العائلة المالكة، وكان المتمردون يحملون لافتات “ناصر”، وكانت الجماهير تردد اسم “ناصر”.

وفيما يتعلق بالآثار الإقليمية للانقلاب؛ قام “دالاس” برسم صورة قاتمة، وكان “شمعون” في لبنان يطلب بالفعل قوات أمريكية، في حين أصبح الأردن ضعيفًا للغاية.

وتوقع “دالاس” أنه “إذا نجح انقلاب العراق، فيبدو أنه من المحتم تقريبًا أن ينشئ سلسلة من التوابع التي ستدمر الحكومات الموالية للغرب في لبنان والأردن والسعودية، وتثير مشاكل خطيرة بالنسبة لتركيا وإيران و(إسرائيل) خاصة إذا وقع الأردن بيد “عبدالناصر”، وكان “دالاس” يرى أن الشرق الأوسط برمته يقترب من السقوط في يد “جمال عبدالناصر”، وأن روسيا هي المستفيد الأكبر من ذلك.

وبالتزامن، وافق وزير الخارجية “فوستر دالاس” على رؤيةشقيقه، وقام بتقديم تحليل طويل حول علاقة السوفييت بـ”ناصر” وقدرتهم على السيطرة على كتلة من الدول من المغرب إلى إندونيسيا، واختتم الرئيس الاجتماع بالقول إنه كان من الواضح في رأيه أنه “يجب علينا أن نتصرف أو نخرج من الشرق الأوسط بالكامل”.

بعبارة أخرى، كان خطر تلقي الولايات المتحدة لهزيمة مدمرة في الحرب الباردة يلوح في الأفق، وهو أمر أسوأ من فقدان الصين إلى المعسكر الشيوعي قبل عقد من ذلك.

أصدر البيت الأبيض تعليماته لـ”البنتاجون” بإرسال قوات إلى شاطئ بيروت في اليوم التالي، وكان الاسم الرمزي للعملية هو عملية “الخفاش الأزرق”.

وفي لندن، قررت الحكومة البريطانية إرسال المظليين إلى عَمان للمساعدة في تثبيت بقايا الملكية الهاشمية التي لا تزال في السلطة هناك.

كان “أيزنهاور” محظوظا في النهاية حيث وجد دبلوماسيوه وجنرالاته في بيروت طريقة دبلوماسية لتجنب الصراع ومنع الأسوأ، ولم يتم شحن الأسلحة النووية من ألمانيا إلى البحر المتوسط، وبعد فترة من المفاوضات السياسية، تم الضغط على “شمعون” للتنحي عن الرئاسة، وانتهت الحرب الأهلية.

بيد أن المهام القتالية الأمريكية اللاحقة في الشرق الأوسط لم تكن محظوظة للغاية أو خالية من التكلفة، على سبيل المثال، انتهت رحلة جنود المارينز إلى بيروت بتفجير شاحنة مفخخة لثكناتهم أسفر عن مقتل 241 جنديًا، ويبدو أن الحروب الحديثه في العراق وأفغانستان أصبحت الآن بلا نهاية. 

لقد كنت شاهداً على الأحداث التي وقعت في بيروت عام 1958، حيث عمل والدي لصالح الأمم المتحدة هناك، وبما أني كنت في الخامسة من عمري فقط في يوليو/تموز 1958، كنت أصغر بكثير من أن أفهم الكثير مما كان يدور حولي، لكنني أظن أن اهتمامي بالمنطقة وسياستها يعود إلى تلك الأيام الحافلة بالأحداث.