إبراهيم سمعان

في غضون 20 عامًا فقط، أصبحت سويسرا مركزًا لتجارة المواد الخام؛ حيث ترسَّخت هذه الصناعة فيها، لكن ما هي الأسباب التي أدَّت إلى ذلك؟.. إنَّه تدهور الوضع في مصر وهجرة تجار القطن المصري إلى منطقة بحيرة جنيف من 1956-1962.

صحيفة “لوتومب” السويسرية نشرت تقريرًا عن قطاع تجارة المواد الخام في سويسرا، والذي أصبح يمثل حاليًا 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي في بلد ليس مرسى للسفن، ولا وجهة لمن يرغب في التجارة، لكن حدث ذلك بفضل التجار المصريين.

 

وفيما يلي مقتطفات من التقرير:-

لم تحتفظ دوريس كوهين- دوماني سوى بذكرى واحدة فقط من مصر، قبل أن تهاجر مع عائلتها إلى أوروبا وبالتحديد نحو مدينة لوزان السويسرية، في فبراير عام 1958، ما بدا كأنه قفزة هائلة نحو المجهول، وبعد 35 عامًا اختلف الوضع نهائيًا.

الإسكندرية، المدينة التي شهدت ولادة دوريس، حيث كان عمرها 12 عامًا عندما تركتها، تعنِي طفولتها السعيدة، وقضاء أيام الأحد على الشاطئ والذهاب للسينما.

 

لكن عقب الحرب التي خاضتها مصر مع إسرائيل وحلفائها الفرنسيين والبريطانيين في عام 1956، طرد الرئيس جمال عبد الناصر الأجانب واليهود من مصر، ولم يكن يعرف أن قراره سيتسبَّب في سعادة بلد آخر.. إنها سويسرا ملجأ المَنْفِيِّين من الشرق الأوسط.

 

أعلى النماذج

وصل إلى هذا البلد الأوروبي عشرات العائلات من الإسكندرية، ومعظمهم من اليهود تجار القطن، واستقروا في جنيف ولوزان، وذلك في الفترة ما بين عامي 1952 و 1962؛ إذ كان لهم تأثير كبير على الأسواق، وساهموا في انطلاق هذا القطاع الذي أصبح أهم داعمٍ للاقتصاد السويسري.

 

اليوم، تجارة المواد الخام تصبُّ في الاقتصاد أكثر من البنوك أو السياحة بهذا البلد (ما يقرب من 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي)، ويعمل بها حوالي 30 ألف شخص، بما في ذلك 6000 على الأقل في جنيف، وفقًا لمنظمة STSA المهنية.

 

تجار هذه السلع هم أكبر مساهِم في مقاطعة نهايتها بحيرة؛ حيث يقدمون مساهمات كبيرة على مستوى الاقتصاد الكلي بالنسبة لسويسرا بأكملها، كما أشار تقرير للمجلس الاتحادي الذي نُشِر في 2 ديسمبر الماضي.

 

لكن تاريخ هذا القطاع لا يزال تأسيسه لُغزًا في سويسرا؛ فكيف يمكن لبلد صغير غير ساحلي، وغير مصدِّر للنفط أو المعادن أو الحبوب، أن يجتذب صناعة هدفها نقل كتلة هائلة من هذه السلع عن طريق البحر؟

 

قبل الحرب العالمية الثانية، كانت سويسرا تَمْتلك بالفعل شركات تجارية مزدهرة، مثل: فولكارت التي كانت تتاجر في (القطن، والقهوة، ومنتجات البلدان والشعوب المستعمرة)، أندريه (للحبوب)، أو شركة بازل التجارية (النخيل والكاكاو)، المرتبطة بالكنائس البروتستانتية.

 

ويشير ماثيو ليمجروبر، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة زيوريخ إلى أن جميعهم اختفوا اليوم، لا يوجد تواصل واضح بين هؤلاء وفترة ما بعد الحرب، إنها قصة غير متزامنة، بعض الأشياء تختفي، وتظهر أُخر، دون انقطاع في الاستمرارية.

 

عام 1956 كان نقطة تحوُّل حاسمة في هذا القطاع، في تلك السنة قام اثنان من الأمريكيين، كارجيل (تجارة الحبوب)، وفيليب براذرز (المعادن) بتأسيس شركة في جنيف وزوغ، وأتباعهم هم من يهيمنون على السوق اليوم.

 

في نفس الوقت، تجار القطن المصريون هاجروا إلى سويسرا مدفوعين بأزمة السويس، وكالعديد من الآخرين، وصلت عائلة دوريس إلى لوزان بدون أي شيء تقريبًا.

 

“كان والدي تاجر قطن، وخطَّط لبيع أثاث منزلنا في مزاد علني بالإسكندرية”، تذكر دوريس كوهين دوماني، “لكن ضابطًا في الجيش جاء إلى منزلنا وصادر كل شيء بحجة أنه يخصّ الدولة- فنظام عبد الناصر كان يصادر ممتلكات أولئك الذين يشتبه في تواطؤهم مع القوى الاستعمارية أو إسرائيل- منازل، وأثاث، وحسابات مصرفية، ومصانع للقطن، بما في ذلك الجنسية المصرية، لقد أكد ناصر أنه لا يمكن أن تكون يهوديًا ومصريًا، لقد جُرِّدنا من جنسيتنا ومُزّقت جوازات سفرنا”.. توضِّح دوريس كوهين.

 

كل من كان يصل إلى لوزان، هم في أغلب الأحيان عديمو الجنسية، جاءوا إلى سويسرا؛ لأن لديهم طفلًا يدرس هناك، أو لوجود أحد الوالدين، وأحيانًا لامتلاكهم حسابًا مصرفيًا.

 

هناك آخرون غادروا إلى فرنسا وبريطانيا وإسرائيل، لكن والد دوريس اختار في بادئ الأمر البرازيل، كما تروِي هذه السيدة: “لقد بدأنا في تعلم اللغة البرتغالية، ونحن لا نزال في الإسكندرية. ولكن بعد التحدث مع أعمامي، قرّر والدي أنه من الأفضل الذهاب إلى مكان نتحدث فيه الفرنسية”.

 

ومع النزوح الجماعي، فإنَّ الإسكندرية، التي كانت تضمّ مائة ألف أجنبي من بين 800 ألف نسمة، واجهت بعض التغيرات، وعقب طرد تجار القطن باتت حكومة جمال عبد الناصر في حاجة أكثر من أي وقت مضى لتصدير هذا المنتج.

 

في لوزان، أصبح على اللاجئين المصريين- كانت عائلات بأكملها تعيش في شقق صغيرة- البدء في العمل من جديد من أجل البقاء، ولذلك بدأوا في ممارسة مجال عملهم القديم.

 

ريمون دي بيكيوتو، والد دوريس كوهين-دوماني، أنشأ شركة تجارية مع شقيقيه وصديقه، وبفضل معارفه في مصر ومعرفته بالقطاع وإتقانه للغة العربية، واصل بيع القطن المصري طوال حياته، وختمت ابنته حديثها قائلة: “هذا هو ما كان يعرفه بشكل أفضل وما كان يفعله دائمًا”.

 

قصة مماثلة لإدموند مورينو؛ لاجئ آخر من الإسكندرية، أنشأ شركة سيلفر إنترناسيونال في لوزان، يقول موظفو الشركة: إنه كان رجل أعمال نشيطًا ومجتهدًا، يتفاوض بجدية على أسعار البالات من مكتبه في لوزان، وهي في طريقها إلى روتردام.

 

“كان دائمًا في مكتبه، من الصباح إلى الليل” يتذكر موظف سابق، وعندما لم يكن السعر يرضيه يصيح في مورِّديه على الهاتف، وهذا كان له تأثيره!، واليوم يواصل ابنه رافائيل تجارة القطن والفيسكوز من لوزان.

 

مساهمات الأسر الشرقية لم تقتصر على القطن فقط، بل شملت المظلات (الشماسي)، والفول السوداني، والمعادن.. يتعامل تجار بلاد الشرق في كل شيء، أنشأ البعض إمبراطوريات صناعية في سويسرا مثل سينتروفين، وهي تكتل تم تأسيسه في لوزان من قبل الأخوين مورينو، حيث كانا يتاجران في الفراء، والمنسوجات، والأسماك، وغيرها قبل أن تختفي هذه المؤسسة في عام 1989.

 

شركات سينتروفين، كوجيكوت، وكوتيب من بين العشرات التي ظهرت في جنيف ولوزان بعد عام 1956، جزء كبير منها لم يَعُد موجودًا، لكن هناك البعض ما زال قائمًا حتى اليوم مثل (كاروج)، أو كوديفين لوزيان، و(يونيتراك) التي تأسَّست عام 1961 من قبل موريس أرجي.

 

اليوم عائلة أرجي واحدة من الأكثر ازدهارًا في لوزن؛ بفضل تجارة شنط الجوت على وجه الخصوص، أما بالنسبة لمؤسسة تاماري، فالفلسطينيون المسيحيون، بدأوا من خلالها تصدير البرتقال من يافا قبل أن يفرُّوا إلى لبنان، ثُمَّ إلى سويسرا عام 1977، وهناك أنشأوا سوكافينا، التي تتاجر الآن بنسبة 4 ٪ من إنتاج البن في العالم.

 

تمكنت الشعوب الشرقية من الانتعاش تجاريًا بهذه السرعة؛ لأنَّ معظمهم كانوا يعرفون سويسرا جيدًا؛ فقد أمضى العديد عطلتهم هناك قبل أن يضطروا إلى الهجرة.

 

سويسرا الإسكندرية

في المدارس الخاصة بالإسكندرية، كان أطفال التجار اليهود يفكّرون في مجتمع سويسري مؤثر وغنِي، مع ما يقرب من 700 شخص في أربعينيات القرن العشرين، كان لديهم مدرستهم الخاصة، وناديهم البحري، وحلوياتهم، وحتى “المجلة السويسرية لمصر والشرق الأوسط”، التي تمَّت كتابتها وطباعتها هناك.

 

هذه العائلات، مثل إيشر استقبلت الملك فاروق في الأول من أغسطس في قصرهم سابا باشا، وكانت نشطة في قطاع النسيج، ولها علاقات مع مصدِّري القطن.

 

ولد في عام 1953، كريستيان بليس هو ممثِّل هذا المجتمع، عائلتُه واحدة من آخر العائلات التي غادرت مصر عام 1961. وقد استقرت في لوزان، حيث يعيش أفرادها هناك منذ ذلك الحين، ويتذكر أنه بمجرد وصوله إلى سويسرا، وجد مزارعو القطن البنوكَ التي اعتادوا العمل معها.

 

اللغة المشتركة، والعلاقات الاجتماعية، والحرية التجارية، كانت وسائل اتصال فعَّالة في ذلك الوقت، ومع وجود عملاء وبنوك كانت سويسرا بالنسبة لتجار الإسكندرية مثالية.

 

https://www.letemps.ch/economie/declin-legypte-richesse-suisse?utm_source=facebook&utm_medium=share&utm_campaign=article