جلال إرديس

تفترش السيدة “أم أحمد” أحد الأرصفة أمام مستشفى حكومي بمحافظة الجيزة، في انتظار السماح لها وابنها الذي يئنّ من شدة المرض، ويحتاج إلى حجز بالمستشفى، غير أنّ العجز في عدد الأسِرّة جعلها تبيت 3 ليالٍ في انتظار الفرج.

وفي صباح أمس شاهدت “أم أحمد” حركة غير عادية أمام أبواب المستشفى، واستمعت إلى صوت موسيقى عالٍ من داخلها، ظنَّت السيدة المسكينة أنَّ أحدًا من المسؤولين قادم لزيارة المستشفى، فاعتبرتها فرصة مناسبة لتشكو حالها له علَّه “يجد لابنها خلاصًا من آلامه وأوجاعه”.

غير أنَّ المفاجأة التي صدمتها، أنَّ الحركة غير العادية والموسيقى العالية، كانت موسيقى عزف “السلام الوطني”؛ إذ علمت أم أحمد أن وزيرة الصحة الدكتورة هالة زايد اتخذت قرارًا تمّ تعميمه على جميع مستشفيات الجمهورية، ينصّ على إذاعة السلام الجمهوري يوميًا، عن طريق الإذاعة الداخلية بكل مستشفى، وذلك بهدف تعزيز روح الانتماء عند المرضى والأطباء.

لم تتمالك “أم أحمد” نفسها من الضحك رغم كل ما بها من آلام وأوجاع، وسخرت من واقعها المُزرِي قائلة: “يعني ابني هيخف يادكتورة بالسلام الوطني، ولا هتصرفولوا علاج بالسلام الوطني، ولا هتوفرولو سرير بالسلام الوطني، ولا ولا ولا .. حسبنا الله ونعم الوكيل”.

مرضى أمام المستشفيات

مرضى أمام المستشفيات

 

الوزيرة والسلام الوطني

قصة أم أحمد مع المستشفى الحكومي، هي واحدة من مئات المشاهد المتكررة يوميًا في مصر أمام المستشفيات الحكومية، التي تعاني عجزًا وتدهورًا ونقصًا في كل شيء، بدءًا من الكادر الطبي ومرورًا بالخدمات الصحية من أسِرّة وأجهزة، وإمكانيات، فضلًا عن عدم وجود أقل القليل من العلاج والأدوية.

وبدلًا من الاهتمام بتحسين هذا القطاع المتهالك من قطاعات الدولة، اتخذت وزيرة الصحة الجديدة بحكومة السيسي قرارًا هو الأغرب من نوعه؛ إذ قررت عزف موسيقى السلام الوطني يوميًا داخل مستشفيات مصر، لحكمة تعرفها الوزيرة وربما يعرفها السيسي أيضًا.

وزيرة الصحة المصرية

وزيرة الصحة المصرية

وزعمت وزيرة الصحة في بيان لها أنَّ هذا القرار يعزّز من قيم الانتماء للوطن لجميع المستمعين في المستشفيات، سواء للمريض أو الأطقم الطبية، مضيفةً أن بث القسم سيذكِّر الأطباء بمبادئ الإنسانية المنصوص عليها في القسم، والتي هى أساس أي عملية خدمية نبيلة تقدم للإنسان.

رحلة عذاب وليست علاج

المثير في الأمر أنَّ قرار الحكومة يأتي في ظل واقع طبي وصحي متهالك تمامًا في مصر، وتدرك وزيرة صحة السيسي ذلك جيدًا.

وأصبحت رحلات العلاج في مصر لكل من أجبرته الظروف على ارتياد أحد المستشفيات الحكومية، هي رحلة عذاب ومرارة وحسرة وغيظ وقهر، بداية من أقسام الطوارئ التي تتكدس بالمرضى، الذين افترشوا الأرض بالممرات والطرقات، نظرًا لضيق المكان، وعدم وجود أسِرّة شاغرة جاهزة لاستقبال الحالات التى تزيد يومًا بعد آخر.

مرضى في الطرقات

مرضى في الطرقات

كما أنّ العناية المركزة في المستشفيات الحكومية تحتاج إلى عناية مركزة خاصة، فإذا كنت من أصحاب الحظ السعيد، تستطيع الحصول على سرير داخل غرفة عناية مركزة بمستشفى حكومي بطريقين، الأول التضحية بإحدى الحالات الموجودة والميئوس في شفائها أو توفير أحد الأسرة داخل غرفة العناية دون توافر أجهزة الرعاية الطبية اللازمة- نصب في نصب يعني.

الأدوية لا تتوفر بالمستشفيات

أما عن توافر الدواء اللازم مجانًا للمرضى، فمن ينكر ذلك؟.. بداية من خيط العمليات الجراحية، والسرنجات والحقن، والشاش والقطن الطبي، والمحاليل الدوائية، واللاصقات الطبية، كل ذلك موجود ومتوافر داخل دواليب حديدية أكلها الصدأ لقلة الاستعمال، لكن الصرف حسب المزاج، وحسب الفلوس، ومن لديه القدرة في ذلك الوقت على الاعتراض، ستجد برودة الإنجليز الأصلية على وجوه كل أفراد الطاقم الطبي، ولن تملك في النهاية إلا الطاعة والإذعان لأوامرهم.

وإذا عرجنا بالحديث عن مطابخ المستشفيات المعنية بتصنيع وطهي وجبات المرضى، فلا تندهش إذا وجدت الوجبات ملقاة في القمامة كما هي لم تمتد إليها يد، فالمطابخ في غالبية المستشفيات الحكومية تخالف كل الاشتراطات الصحية المطلوبة والضرورية لعمل وجبة صحية يتم تقديمها لمريض خاضع للعلاج.

22 سريرًا لكل ألف مريض

وفقًا لمسح إحصائي للمستشفيات الحكومية في مصر عام 2015، فإنّ عدد المستشفيات الحكومية 612، موزعة بين المستشفيات العامة وهي المستوى الثاني62، و205 مستشفيات مركزية المستوى الثالث، و 19 مستشفى صحة نفسية، و42 مركزًا طبيًا متخصصًا، و19 مستشفى تعليميًا، والمستشفيات النوعية 138، والمستشفيات الجامعية 94.

وتبلغ عدد الأسرّة الحكومية 49475 سريرًا، المستوى الثاني 50% بمعدل 12500 سرير، والمستوى الثالث 80% بمعدل 25000 سرير، والتأمين الصحي 75% بمعدل 6 آلاف سرير، والمؤسسة العلاجية 25% بمعدل 2500 سرير.

لكن المثير في الأمر أنَّ متوسط عدد الأسرّة يبلغ 22 سريرًا لكل 1000 نسمة، والمعايير الدولية 93 سرير لكل 1000 نسمة كما في السعودية وإنجلترا، وتستقبل الطوارئ سنويًا 20 مليونًا و 545 ألف حالة سنويًا.

كما أنَّ عدد أسرّة الرعاية المركزة 6569 سريرًا من بينها المستوى الثاني المستشفيات العامة 782 سريرًا، و 999 المركزي المستوى الثالث، و236 نوعيًا، 350 تعليميًا، 511 مركزًا طبيًا متخصصًا، و3200 جامعي، والتأمين الصحي 593، والمؤسسة العلاجية 98، ويعني ذلك أن متوسط عدد أسرّة الرعاية المركزة هو سرير واحد لكل 16 ألف نسمة، في حين أنَّ المعايير الدولية سرير لكل 7000 نسمة بالمقارنة بتركيا، كما أنَّ المشكلة تزداد بمحافظات الصعيد التي لا تملك إلا سريرًا واحدًا للرعاية المركزة لكل 22 ألف نسمة.

لا حضانات تكفي لحديثي الولادة

وفيما يتعلق بحضانات حديثي الولادة كشف المسح عن أنَّ هناك عدد 3712 محضنًا، من بينها 100 مغلقة بالمستشفيات العامة، و1302 تعمل بأقل من نصف طاقتها، و1553 بنسبة 92% تعمل بكامل طاقتها، أما المركزي المستوى الثالث وجد أن 388 بنسبة 89% محضن تعمل بكامل طاقتها، والتأمين الصحي 355 بنسبة 93% تعمل بكامل طاقتها، والمؤسسة العلاجية 14 حضانة بنسبة 80% تعمل بأقل من نصف طاقتها.

حضانات متهالكة

حضانات متهالكة

كما شملت نتائج المسح مستوى رضا المريض، حيث تم إجراء استبيان لقياسات رضا 1000 مريض ببعض المستشفيات العامة والمركزية في 4 محافظات مختلفة وجاءت لتكشف أن 62% راضون عن معاملة الأطباء، ومعاملة هيئة التمريض 55%، توفر الخدمة 50%، الوجبات 40%، النظافة 28%.

أجهزة طبية معطلة

تعاني المستشفيات الحكومية في مصر أيضًا من “نقص الخدمات وتهالك الأجهزة الطبية”، حيث أكدت عشرات التقارير أن مئات من المرضى فاضت روحهم داخل مسشتفيات الحكومة، نتيجة سوء الخدمة، ونقص في الإمكانيات، وتعطل الأجهزة، وانعدام وجود أخرى.

والمثير أنَّ نقص الأجهزة الطبية داخل المستشفيات الحكومية،  يشمل أجهزة لا يمكن أن يستغني عنها المريض مثل أجهزة التنفس الصناعي وأجهزة فصل وتجلطات الدم.

وبالمسح السريع لمستشفيات الدولة، التي تستقبل فقراء المرضى، يتضح أن أغلبها يفتقر لأهم تلك الأجهزة، وإذا صادف وجودها في أحد المستشفيات يتضح أنها معطلة أو حبيسة المخازن، في انتظار من يوقع على عهدة استلامها حتى تعطب في مكانها خشية تحمل المسؤولية.

أجهزة طبية خربة

أجهزة طبية خربة

وبحسب الدكتور خالد سمير، أستاذ جراحة القلب بكلية الطب جامعة عين شمس، فإنَّ عددًا كبيرًا من المستشفيات الحكومية تضم أجهزة طبية معطلة لا تعمل ولا يتم الاستفادة منها، ولكن لأنها عهدة على المستشفى تظل موجودة نتيجة الإداريات التي وصفها بالعقيمة، منها أجهزة تنفس صناعي بجانب أسرَّة رعاية مركزة.

ويؤكد “سمير” أنه من المفروض أن الأجهزة لها عمر افتراضي يجب أن تتكهن مع انتهاء عمرها، مشيرًا إلى أن الآلات الجراحية عمرها من 5 إلى 10 سنوات حسب الشركة المنتجة، مؤكدًا عدم وجود ميزانية للإحلال والتجديد في مستشفيات وزارة الصحة حتى فيما هو أساس الطب كالآلات وحامل الأدوية والمحاليل والكراسي المتحركة للمرضى في المستشفيات والترولي ومستلزمات دائمة ضرورية لا يمكن العمل بدونها أغلبها قديمة.

ميزانية ضعيفة ومهدرة

وفي الوقت الذي ينصّ فيه الدستور المصري على أن “تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي لتتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية”، تعاني ميزانيات القطاع الصحي في مصر ضعفًا كبيرًا.

وفي مشروع الموازنة الجديدة تمّ تخصيص 61.8 مليار جنيه لوزارة الصحة، يدخل في نطاقها موازنة المياه والصرف الصحي، وتمّ تخفيض دعم التأمين الصحي والأدوية من 3.828 مليارات جنيه في موازنة (2017/2018) إلى 3.340 مليارات جنيه في الموازنة الجديدة.

عبدالفتاح السيسي

عبدالفتاح السيسي

وتوزّعت بنود قطاع الصحة في الموازنة بواقع: 31.6 مليار جنيه للأجور، و12.47 مليار جنيه لشراء السلع والخدمات، و11.15 مليار جنيه لشراء الأصول غير المالية (الاستثمارات)، و5.229 مليارات جنيه للدعم والمنح والمزايا الاجتماعية، و1.24 مليار جنيه للمصروفات الأخرى، و120 مليون جنيه للفوائد.

كذلك، خفضت حكومة السيسي بند دعم التأمين الصحي والأدوية من 3.828 مليارات جنيه في موازنة (2017/2018) إلى 3.34 مليارات جنيه في الموازنة الجديدة، بنسبة خفض بلغت 13%، على الرغم من الارتفاعات المتوالية في أسعار الأدوية.

بعد كل هذه الكوارث التي يعج بها القطاع الصحي فماذا تقول لوزيرة الصحة ؟