المتابع للشأن العبري، يعلم جيداً أنه من المعتاد مطلع كل عام أن تخرج شعبة الاستخبارات العسكرية التابعة لجيش الاحتلال، بتقديرها السنوي، والذي تكشف فيه عن التهديدات المتوقعة لذلك العام، والاجراءات التي ينبغي اتخاذها لمواجهة تلك التهديدات.

إلا أن العام 2020 شهد مفاجأة كبيرة وصادمة، حيث صدر تقرير الاستخبارات العسكرية السنوي وقد أدرج تركيا على قائمة التهديدات، وذلك لأول مرة في تاريخ دولة الاحتلال.

(هذا التقدير ترجمت بعض المواقع العربية أجزاء منه مثل الجزيرة نت والمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار”).

 

دور جهاز الاستخبارات العسكرية وأهمية تقديراته:

ولكي ندرك أهمية ودلالات مخرجات تقديرات الجهاز، ينبغي أولاً أن نعرف ماذا يمثل جهاز الاستخبارات العسكرية في الوجدان والوعي لدى العدو قيادة وشعباً.

فجهاز الاستخبارات العسكرية والذي يطلق عليه الاسم الكودي “أمان”، يعتبر أعرق جهة استخبارية لدى دولة الاحتلال، وأعلاها موثوقية لدى القيادة السياسية، وتقديراتها دائماً لها تأثير وانعكاس مباشر على مسارات وتوجهات الدولة في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية.

كما يكفي أن نعلم أن “هيئة الرقابة العسكرية”، والتي تقوم بدور الرقابة الكاملة على كل ما يتم نشره في الإعلام، والتي لاطالما سمعنا اسمها يتردد كثيراً في مقدمة الأخبار المنقولة من إعلام العدو تحت عنوان “بعد إجازة الرقابة العسكرية”، هذه الهيئة ليست سوى وحدة داخل شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان”.

هذه الهيئة تمتلك الحق الكامل، والصلاحية القانونية المطلقة، في الرقابة الكاملة على كل ما يتم نشره في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي بلا استثناء، وحجب أو حذف أي خبر، ليس فقط الأخبار الأمنية والسياسية، بل والفنية والرياضية والاجتماعية، طالما “رأت” الرقابة أنه يمس الأمن القومي.

وهو ما يعني باختصار أن الاستخبارات العسكرية هي التي تقوم بنفسها بعملية الإشراف على وعي الجمهور، وتحدد ما يجوز عرضه وما ينبغي حجبه.

(هذا لا يعني أن كل ما يعرض في الإعلام هو مقصود ومدفوع من الاستخبارات، حيث أن الجهاز لم يعد قادراً على حصر ومتابعة ومراجعة وتدقيق كل ما يعرض، في عصر اتسع فيه الفضاء الإعلامي وخرج عن السيطرة).

 

لماذا أثارت تركيا قلق العدو ولماذا يمثل أردوغان بشخصه تهديداً؟

أرجع التقدير الأسباب وراء إدراج تركيا على قائمة التهديدات، إلى تزايد عدوانية تركيا في المنطقة وتحولها إلى تهديد أقليمي حقيقي، من خلال تدخلها الزائد في شؤون مدينة القدس وتحريضها للمقدسيين، واحتضانها لقادة المقاومة المقيمين في تركيا، وتدخلها عسكرياً في سوريا وفي ليبيا، وتهديدها لخطط تصدير الغاز شرق المتوسط ولحلفاء دولة الاحتلال، قبرص واليونان.

 

إلا أن أخطر ما جاء في التقدير هو:

أن شعبة الاستخبارات اعتبرت أن كل تلك القضايا وما تحمله من تهديدات، تتلخص في شخص “أردوغان” نفسه، وأنها “لم تكن من قبل متأصلة في نظرة تركيا كدولة”.

وعليه قدرت أن هذه التهديدات كلها ستزول بعد رحيل “أردوغان”.

تكمن خطورة مثل هذه التقديرات، ليس في محتواها، بل فيما يفترض أن يبني عليها من إجراءات ومسارات عمل، والتي من المفهوم بالضرورة أنها ستركز بشكل كبير على تغييب “أردوغان” بكافة الوسائل والطرق.

يعضد من ذلك، تقدير الموقف الذي نشره معهد أبحاث الأمن القومي في يوليو 2024 الماضي، للباحثة الصهيونية “غاليا لندنشتراوس” تحت عنوان “تهديدات أردوغان: كيف يكون الرد”، والذي يركز مرة أخرى على الموقف الشخصي للرئيس “أردوغان” وأثره على تهييج وتحريض القواعد الشعبية، وليس على موقف الدولة التركية وكيفية التعامل معه من منطلق التعامل مع مواقف الدول.

المفارقة هنا -وليس الصدفة- هي أن قائد الاستخبارات العسكرية الذي صدر تقدير عام 2020 خلال فترة ولايته كان اللواء “تامير هايمان”، وهو نفسه رئيس معهد أبحاث الأمن القومي الحالي الذي صدر تقدير المعهد المذكور أعلاه خلال فترة رئاسته الحالية للمعهد.

 

الخلاصة:

على الرغم من كافة المؤاخذات التي قد تطال سياسة وممارسات الرئيس “أردوغان” في ملفات كثيرة، سواء ملف اللاجئين السوريين، أو استقبال رئيس دولة الاحتلال عام 2022، أو التضييق على قيادات المقاومة في تركيا، أو حتى ملف استمرار التعاون الاقتصادي غير المقبول مع العدو خلال الشهور الأولى للحرب، والتي جميعها ممارسات يشوب كثير منها براغماتية سياسية مرفوضة.

إلا أننا لا يصح أن ننكر أن الرجل بشخصه وبذاته يمثل تهديداً مباشراً لعدو الأمة الأول وباعترافهم أنفسهم، وأن غياب هذا الرجل الذي يحكم أكبر دولة في المنطقة كان ولايزال مطلباً ملحاً للعدو، وأن علاقة عدو الأمة بتركيا ستتحول إلى النقيض تماماً بعد رحيل هذا الرجل شئنا أم أبينا أحببته أم لم تحبه.

علينا حينما نتعامل مع القضايا المحورية للأمة، ألا نتعامل مع الأطراف والمنخرطين فيها بمبدأ السلة الواحدة والأبيض والأسود غير مكترثين لأهمية وضرورة توزيع الأوزان للمواقف والممارسات بشكل صحيح، كل حسب ثقله وأهميته وتأثيره.

وإنما ينبغي أن تكون بوصلتنا الوحيدة هي العدو المحتل، ومصالحه، وأصدقاؤه، ومعسكر اصطفافه.

فمتى علمنا أهداف العدو عملنا على إحباطها،

ومتى عرفنا أصدقاءه عاديناهم،

ومتى رأينا اصطفافاً يصب في مصلحته اصطففنا في الطرف الآخر.

هكذا فقط يكون الوعي والنضح والتحرك الرشد، وهكذا فقط يمكن أن نوقف نزيف الخسائر ونتخلص من مصيرنا المشؤوم المحتوم، كوننا كنا دائماً قطع على رقعة الآخرين، وجزء من خطط أعدائنا.