بين ظلمات الليل الثلاث و ظلم ذوي القربى المضيض، في ليلة من ليالي الخوف التي لم أتذوق غير جحيمها منذ خرجت من بيتي خائفا أترقب، شاء الله أن أعطي قلبي لأبي راتب ليصب عليه من سهام الشوق و حمى الحنين بأنشودته،

إيه أمي لو أراك… قبلما يأتي الردى

زوديني بدعاك… وامنحي قلبي الرضا

كم أناديك بقلب…. أثقلته النائبات

وأرى طيفك حولي… ساطعا كالنيرات

لست أخشى من ممات… فالفدى عذب ثمين

غير أني لو أراك … يبسم القلب الحزين

لم أغب عنها في حياتي أكثر من ثلاثة أيام فكيف بي أفارقها ثلاثة أشهر، كيف يظل قلبي حيا بعد أن نزعوه من معينه، و سلبوه من روحه و جلدوه بالحنين ليسلموه قطعة لحم مهترئة معلقة بين الموت و حياة أبشع من الموت، لقد ألقيت في جحيم الشوق في أظلم و أسود ما قد تكون عليه قط حتى بلغ الشوق أشده و أحرقت ناره ما تبقى من لُبي فما كان مني إلا أن أذعنت له و أسرعت إليها أملأ عينيَّ ببسمتها الحنون و ملامحها الهشة البشة و أحن على أنفي بعطرها الذكي و أريح أذنيَّ بصوتها العذب الرقراق إذ تقول لي “يا بنيّ” ، و أذيب جوارحي بين ذراعيها الدافئين و صدرها الدفيء، قضيت معها حينها ليلة لم و لن أنساها في حياتي أبدا أظلمها إن شبهتها بليالي” ألف ليلة وليلة ” لازلت أذكرها كأنها البارحة ،و لا زلت لا أدري لم اتخذت ملامح ليلة الوداع، هل كانت أمي تشعر، أم أنها رحمة الله أن جعل آخر أيامي سمر طويل و أنس دفيء مع أمي الغالية، ثم فإن قضاء الله نافذ لا يقوى على منعه شيء فكانت ليلة الوداع الليلة الأخيرة على فراش أمي الوثير الذي لم تفارقني ذكراه أبدا و ظلت له في مضغتي المهترئة بقعة نور تبقيني على قيد الحياة فكنت كلما أطبق علينا الظلام و أسلمت نفسي للفراش القذر أنشأ قلبي يتغنى بكلمات أبي راتب إذ يقول : هيأت لي أمي فراشا وثيرا….. من رياش الحمام حشت الوسادة

لتزيد المضغة المهترئة تفطرا و تجود العين المسكينة بما بقي فيها من دمع علَّها تخمد أتون الشوق المتفجر لكن هيهات فالدمع الحار لن يزيد النار إلا اضطراما فكيف لعين  لم ترتوي من جمال أمي تحارب شوقها إليها، لم يهمني أبدا الجب و ظلمته قدر ما أهمني أتون الشوق الذي تفجر في قلب أمي حينما انتزعت من بين يديها فلم يكن دعائي بالحرية قدر ما كان دعائي بأن يربط الله قلب أمي و لم أكن أرجو من نعيم هذه الدنيا الفانية شيئا أكثر من لقاء أخير بأمي ثم فليقبض الله روحي إن كان في قدري ذلك ، و لكن شاء العلي القدير أن ينعم عليَّ بالقافلة التي ترسل  واردها ليدلي بدلوه فيبشر أمي بنعيم اللقاء، فعدت لأجد شبحا هزيلا قد أرهقه عفاف النفس عن الطعام و أنهكه عفافها عن النوم و أهلكته جحيم الشوق و أبواب ملَّت من كثرة الطرق فأرتميت بين ذراعيها لأذوب بينهما و يقفز قلبي داخل قفصه وي كأنه يربت على قلب أمي أن لا تهلك نفسك كمدا قد مضت المحنة و أذن الله برفع البلاء و لن يفرقنا بإذن الله شيء غير الموت قط ، لم أفق من نشوة لقاء أمي و احتضانها إلا و يد أبي تسحبني إلى حضنه ثم أحضان إخوتي، و لكن ظل قلب أمي هو أكثر من حولي ضياء و بقيت بسمتها المصدر الوحيد للنور في تلك الغرفة فكانت و روحها المنتشرة قميص يوسف الذي ردني حيًا منيرا ، فاللهم لقاء تقفز له القلوب و تطير له الألباب و تضيء لأجله الثغور و ترتد لضياءه الأرواح لكل عبد فرقت يد الظلم بينه و بين روحه سواء أُلقيَ في الجب أم خرج خائفا يترقب