في هذه السلسلة من المقالات تقوم “العدسة” بتسليط الضوء على أبرز محطات حياة محمد بن سلمان التي تناولها كتاب “الدم والنفط” للكاتبين “برادلي هوب” و “جوستين شيك” والذي يسرد انتهاكات بن سلمان وجرائمه ضد الإنسانية، كما يتناول الجانب الشخصي من حياته وكيف ساهمت تنشئته كابن مدلل لوالده “المسن” في رسم شخصيته الحالية.

المحطة الثانية: جنون العظمة

في عام 2018 تم ترشيح محمد بن سلمان للحصول على لقب “شخصية العام” في القائمة السنوية لمجلة “التايم” الأمريكية.

ظاهرياً، هذه الخطوة قد تبدو دليلاً على نجاح محمد بن سلمان في وصوله للعالمية وإظهار نفسه كأمير مجدد، صاحب رؤى إصلاحية وتقدمية تخرج ببلاده من عصور الظلام إلى عصر جديد مزدهر، الفضل الأول والأخير فيه يرجع إليه.

في الواقع، لم يحقق بن سلمان أياً مما كان يسعى إليه. الجانب الآخر من تلك السنة كان بعيداً عن الأنظار، لكنه كان مليئاً بالحوادث التي تكفي لأن يلاحق عارها بن سلمان طوال العمر، حيث تم تكثيف الرقابة على الجميع، مع تصاعد حملات الاعتقالات التعسفية، مع الاختطاف والعنف الذي استهدف المعارضين في الداخل والخارج.

من خلال الإبحار في حياة محمد بن سلمان، يتضح جلياً أنه لا شيء يسيطر عليه أكثر من “جنون العظمة”، هو مريض بهذا الداء، الذي بسببه دفع الكثيرون حياتهم ومستقبلهم ثمناً في المقابل.

الغيرة ممن هم أفضل، السعي الدائم للتميز والتربع على عرش القوائم -حتى بدون أحقية، رفض الرأي الآخر، بل والرأي المشابه طالما أنه لم يصدر “عني”… هذه هي الدوافع الرئيسية لحملات القمع والاستبداد التي قادها محمد بن سلمان.

في البداية، نجد أنه تخلص من رجال النظام السابق، خاصة الذين “تجرؤوا” ووجهوا له انتقادات تتعلق “بسلوكه المهني”، كما حدث مع التويجري على سبيل المثال.

بعد ذلك قام بالتخلص من الرجال الذين يهددون تواجده في العرش، سواء رجال السياسة أو الاقتصاد، وقام بتقويض تحركاتهم وإعفائهم من مناصبهم مع تجريدهم من صلاحياتهم، ليشن حملة اعتقال واسعة في صفوف أبرز رجال الدولة، بمزاعم الفساد، وهي حيلة قال الخبراء أنه لجأ إليها لكي يتمكن من الاستيلاء على أموالهم وثرواتهم، وبالتالي يجردهم من ميزة النفوذ المالي، ويستحوذ هو عليها.

ومع تعزيز قوته، استدار إلى أولئك الذين لا يشكلون أي تهديد لعرشه، لكنهم أفضل منه على المستوى الشخصي، وأكثر تميزاً ولمعاناً خاصة في الأوساط الدولية، كالأمير سلمان بن عبد العزيز، ابن عمه، الذي لطالما كان يشكل مصدر ازعاج كبير لمحمد بسبب تلقيه تعليماً “أفضل منه”، وشبكة علاقاته الواسعة مع الدبلوماسيين الغربيين، وحضوره القوي على الساحة الدولية والمحلية كرجل خيري.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الأمير سلمان متزوج من ابنة الملك الراحل -عبد الله-، والتي ورثت عنه نحو مليار دولار مع امتيازات أخرى، رأى محمد أنها لا تستحقها، لهذا قام باعتقال زوجها -سلمان-، وبعد فترة وجيزة اختفت ملايين الدولارات التي ورثتها زوجة سلمان من والدها من حساباتها في البنوك السعودية، إلى جانب ميراث أبناء عبد الله الآخرين، كما تم اعتقال شقيقها تركي بن عبد الله.

في اليوم التالي لاعتقال سلمان- أو اختطافه ان جاز التعبير، حيث تم استدعاؤه إلى الديوان الملكي بصورة مفاجئة ومنذ ذلك الحين وهو رهن الاعتقال- تم الإعلان عن اعتقال مجموعة من الأمراء من بينهم “سلمان”، وذلك بسبب حضورهم إلى الديوان واثارة البلبلة بشأن امتناع الحكومة عن دفع فواتير الكهرباء الخاصة بهم!

نعم.. كانت هذه هي التهمة التي وُجهت للأمراء، من بينهم سلمان، الذي يملك أموالاً لا حصر لها، ولا يعرف “حرفياً” ماذا سيفعل بها، بل الرجل كان بصدد بناء حديقة حيوان خاصة، فكيف “يتشاجر” مع ولي العهد على فاتورة كهرباء!

يبدو أن محمد بن سلمان لم يكن يفكر أبداً قبل اتخاذ أي قرار، والأكيد، أنه لم يحسب عواقب الأمور. النرجسية هي ما كانت تسيطر على تفكيره، مصلحته الشخصية المتمثلة في إشباع رغباته “السيادية” تغلبت على مصلحة البلاد وعلاقاتها الخارجية، سواء مع دول أو رجال بارزين.

بعد اعتقال الأمير سلمان بن عبد العزيز، لجأ والده ]والد سلمان[ إلى محامي دولي للتدخل في الأمر، هذا المحامي كان “إيلي حاتم”، رجل فرنسي من أصول لبنانية، كانت تربطه بمحمد بن سلمان “صداقة شخصية” أو هكذا بدت الأمور، فحاتم صاحب الفضل في تحويل مسار تفكير محمد بن سلمان من مراهق لا يهتم إلا بألعاب الفيديو، إلى شاب صغير يسعى وراء جمع الثروة وتعزيز السلطة.

كما أن حاتم كان المحامي الشخصي لحصة بنت سلمان أخت محمد بن سلمان، والذي كان يمثلها أمام القضاء الفرنسي بعد اتهامها وحارسها الشخصي بالتعدي على أحد العمال في باريس.

بعد تدخل حاتم في قضية الأمير سلمان، قطع محمد بن سلمان علاقته به، وسحب قضية شقيقته من مكتبه..

من الجدير بالإشارة إليه، أن قضية حصة بنت سلمان، دليل آخر على المحاولات المستميتة لابن سلمان باستغلال نفوذه، في عام 2017، قام محمد -نقلاً عن حاتم- بالاتصال به وأخبره أن والده الملك سلمان تهاتف مع رئيس فرنسا -آنذاك- فرانسوا هولاند بشأن القضية، معتقداً أنه بهذه الطريقة يمكن أن يتدخل الرئيس ويحل المسألة أمام القضاء، لكن حاتم فاجأ محمد بأن “الأمور لا تسير بهذه الطريقة في فرنسا… الرئيس لا يستطيع التدخل”.

لم يكتف بن سلمان بهذا القدر من التهور في إدارة الأمور، بعد ذلك بأشهر، تحديداً في أغسطس/آب 2018، نشبت أزمة دبلوماسية كبيرة بين المملكة وبين كندا، حيث تم طرد السفير الكندي بعد نشر السفارة تغريدة على تويتر تنتقد فيها سياسات المملكة العربية السعودية القمعية، وتشجب حملات القمع والاعتقالات التعسفية التي يشنها محمد بن سلمان في صفوف النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان”. تم طرد السفير في وقت كانت فيه المملكة تسعى بكل جهدها لإقامة علاقات اقتصادية قوية بين البلدين.

الانتقاد الكندي جاء بعد حملات الاعتقال المسعورة التي شنها رجال بن سلمان في صفوف المعارضين والنشطاء، على رأسهم الناشطة “لجين الهذلول”، التي اكتسبت قضيتها سمعة دولية واسعة بسبب الانتهاكات البشعة التي تتعرض لها داخل على يد السلطات السعودية، بقيادة سعود القحطاني -مستشار ولي العهد السابق-.

المفارقة المريرة في قضية لُجين هي أن محمد بن سلمان كان يدعو إلى نفس الإصلاحات التي كانت تدعو إليها… لماذا قمع إذاً النشطاء في حين أن كل ما يحتاجه فعلاً هو دعوتهم إلى المجلس ووعدهم بالإصلاح؟ الإجابة المؤلمة أنه: في المملكة العربية السعودية بقيادة بن سلمان، لا يمكن أن تأتي الإصلاحات إلا من الأعلى، خشية أن يعتقد المواطنون أنهم يستطيعون الحصول على حقوقهم من خلال الاحتجاج أو انتقاد العائلة المالكة علانية.

وعلى الرغم من كل آرائه الليبرالية، كان محمد متفقًا بشكل عام مع أعمامه وإخوانه وأبناء عمومته على شيء واحد: من الأفضل لآل سعود أن يديروا الأمور بأنفسهم.

أراد بن سلمان سعودية مثقفة بلا مثقفين حقيقيين، أرادها مملكة متقدمة دون تنويريين، أراد أن يكون الزعيم الوحيد بل الأوحد في مسار الإصلاح والتقدم وتطوير المستقبل، وبسبب القمع والاستبداد الذي عامل بهم أي منتقد لسياساته، أو أي صوت يغرد خارج سرب طموحاته، تحول من “شخصية العام” إلى “أبو منشار”.

يتبع..