أحمد حسين

أججت أزمة الحركة الاحتجاجية في فرنسا والمعروفة باسم السترات الصفراء، الخلافات الفرنسية الإيطالية، واستدعت أسبابا أخرى بعضها تاريخي لجذور الصراعات بين البلدين الأوروبيين.

ورغم تعدد مظاهر الخلاف، إلا أن الصراع على النفوذ في ليبيا يبقى المحور الأبرز في الأزمات، حيث ترى كل منهما أن لها الأحقية في التدخل بالشأن الليبي وتوسيع نفوذها وسيطرتها على المشهد هناك.

السترات الصفراء

بينما تحارب الدولة الفرنسية بكل أدواتها احتجاجات السترات الصفراء، يبرز الموقف الإيطالي الرسمي المُصر على دعمها.

البرلمان الفرنسي مرر أخيرا مشروع قانون يهدف لتحجيم الاحتجاجات المستمرة منذ 3 أشهر، يمنع المحتجين من تغطية وجوههم ويمنح الشرطة سلطات أقوى لاعتقال مثيري المشكلات المحتملين من داخل المظاهرات، كما يعطي السلطات المحلية حق منع احتجاجات الأفراد.

(تدني الشعبية وأزمات أخرى تؤرق الرئيس الفرنسي الشاب)

رغم الانتقادات بأن هذا القانون ربما يكبت الحريات المدنية، فقد مررته الجمعية الوطنية (البرلمان) بموافقة 387 صوتا في مقابل 92، وذلك بفضل الأغلبية المريحة التي يتمتع بها حزب الرئيس إيمانويل ماكرون (الجمهورية إلى الأمام) في البرلمان.

في سياق الاحتجاجات قال لويجي دي مايو نائب رئيس الوزراء الإيطالي إنه التقى مع زعماء حركة السترات الصفراء الفرنسية المناهضة للحكومة، أمس الثلاثاء.

مايو، الذي يتزعم حزب حركة (5-نجوم) الشعبوي المناهض للمؤسسات، أوضح أنه توقف أثناء رحلة طيران في فرنسا والتقى مع كريستوف شيلونكون زعيم حركة السترات الصفراء والمرشحين على قائمة الحركة الشعبية في انتخابات البرلمان الأوربي المقررة في شهر مايو.

(دي مايو زعيم حركة 5 نجوم المتطرفة)

مايو قال على تويتر: “رياح التغيير عبرت جبال الألب” وكان نائب رئيس الوزراء قد عبر من قبل عن دعمه لهذه الحركة.

ووجه دي مايو ووزير الداخلية الإيطالي “ماتيو سالفين” وهو أيضا نائب لرئيس الوزراء الإيطالي من حزب الرابطة اليميني، انتقادات لماكرون على مدى الأسابيع الماضية وعبرا عن دعمها لخصومه السياسيين.

واتهم ماكرون بالحكم “ضد شعبه”، وذهب إلى حد تمني رحيله قائلا “كلما اقترب موعد رحيله كلما كان الأمر أفضل”، وقال ماكرون بعدها إن رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي هو السياسي الإيطالي الوحيد الذي سيتعامل معه.

مظاهر أخرى للتوتر

لم تكن السترات الصفراء وحدها سببا في اشتعال التوتر بين البلدين، ففي خضم أحداثها، استدعت الخارجية الفرنسية، في يناير الماضي، سفيرة إيطاليا لديها بعد تصريحات أدلى بها لويجي دي مايو اتهم فيها باريس بجعل أفريقيا أكثر فقرا، وطالب خلالها الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات عليها.

وقال مصدر دبلوماسي فرنسي: “بعد أحدث التصريحات الصادرة عن السلطات الإيطالية، جرى استدعاء السفيرة.. هذه ليست أول مرة تدلي فيها السلطات الإيطالية بتصريحات غير مقبولة وعدوانية”.

الحرب الكلامية استعرت هي الأخرى، فبينما أعرب وزير الداخلية الإيطالي عن أمله في أن “يتحرر” الشعب الفرنسي قريبا من “رئيس بالغ السوء”، ردت ناتالي لوازو الوزيرة الفرنسية المكلفة بالشؤون الأوروبية بالقول إن “فرنسا لن تشارك في مسابقة الأكثر غباء”.

(“سالفيني” اليميني المتطرف أشعل حربا كلامية بين البلدين)

وأعرب دي مايو عن الأمل في أن يفرض الاتحاد الأوروبي “عقوبات” ضد الدول بدءا بفرنسا التي تقف -حسب قوله- وراء مأساة المهاجرين في البحر المتوسط من خلال تهجيرهم من أفريقيا.

وقال: “إذا كان هناك اليوم أفراد يرحلون فلأن بعض الدول الأوروبية في طليعتها فرنسا لم تكف عن استعمار عشرات الدول الأفريقية.. هناك عشرات الدول الأفريقية التي تطبع فيها فرنسا عملة محلية وتمول بذلك الدين العام الفرنسي”.

وأضاف “لو لم يكن لفرنسا مستعمرات أفريقية لأن هذه هي التسمية الصحيحة لكانت الدولة الاقتصادية الـ 15 في العالم في حين أنها بين الأوائل بفضل ما تفعله في إفريقيا”.

وفي يونيو الماضي، تسببت أزمة المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا بتوتر شديد في علاقات البلدين، حين رفضت إيطاليا استضافة اللاجئين على متن سفينة الإنقاذ “أكوارياس” في مياه البحر المتوسط، وهو ما نتج عنه إلغاء لقاء بين وزير الاقتصاد والمالية الإيطالي “جيوفاني تريا” ونظيره الفرنسي برونو لومير.

وأعلنت الخارجية الإيطالية استدعاء روما لسفيرها في باريس على خلفية الانتقادات الفرنسية لتعامل الحكومة الإيطالية مع اللاجئين، معتبرة أنها لن تتلقى دروسا من فرنسا.

كما نقلت وكالة رويترز أنباء عن تأجيل الاجتماع بين رئيس الوزراء الإيطالي الجديد جوسيبي كونتي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مع مطالبة سالفيني باعتذار رسمي من الحكومة الفرنسية على انتقاداتها لروما لتعاملها مع أزمة سفينة اللاجئين.

وكان ماكرون وصف إغلاق إيطاليا لموانيها في وجه اللاجئين بالتصرف “الأناني وغير المسؤول”.

(ملف اللاجئين يضيف بعدا جديدا للأزمة)

وفي مارس استدعت وزارة الخارجية الإيطالية السفير الفرنسي في روما، كريستيان ماسيه، للتنديد بوجود عناصر من الجمارك الفرنسية في إحدى البلدات الإيطالية.

وأكدت فرنسا أن وجود عناصر من جماركها بمنطقة جبال الألب في بلدة على الحدود الإيطالية “أمر مطابق للقوانين”.

وأوضحت الحكومة الفرنسية في بيان لها أن “فريقا من كتيبة السكك الحديد في الجمارك الفرنسية في مودينا كان يقوم بعملية تدقيق في القطار السريع الذي يقوم برحلة بين باريس وميلانو”.

واشتبه موظفو الجمارك الفرنسين في مسافر نيجيري يقيم في إيطاليا يهرب المخدرات، وطلبوا منه الخضوع لفحص للبول، وهو ما وافق عليه خطيا.

وانتظر الموظفون وصول القطار إلى مقر المنظمة في محطة باردونيكيا للفحص، إلا أن موظفي المنظمة رفضوا ذلك.

الصراع على الكعكة الليبية

ورغم كل ما سبق من مظاهر التوتر والخلافات، يبقى صراع فرنسا وأوروبا على النفوذ في ليبيا هو الحلقة الأقوى، فالخلافات حول الملف الليبي تتجاوز كونها مجرد تباين وجهات النظر بين الطرفين، وإنما تجسد تاريخا ملتهبا من الصراع على النفوذ بالبلد النفطي.

فإيطاليا ترى في نفسها الأقرب لإدارة الملف بحكم قربها من السواحل الليبية، وماضيها الاستعماري، إضافة إلى معضلة الهجرة غير الشرعية التي تثقل كاهلها.

أما باريس، فتعول على علاقاتها التاريخية مع بعض الأطراف الليبية، خصوصا في الجنوب الذي يعتبر بوابة الهجرة القادمة من جنوب الصحراء الإفريقية، ومنطقة التماس مع مناطق نفوذها في النيجر ومالي، اللتين تخوض فيهما حرب مع تنظيمات إرهابية في الصحراء الكبرى، التي تتخذ من الجنوب الغربي الليبي قاعدة خلفية للهجوم على القوات الفرنسية وحلفائها في البلدين.

وشكلت ملفات -أهمها الهجرة والإرهاب والاقتصاد- أبرز دوائر الصراع، خاصة بعد صعود اليمين المتطرف في الانتخابات البرلمانية الإيطالية مارس الماضي.

وتبدو للصراع الفرنسي الإيطالي جذورا تاريخية عندما كانت روما ضمن دول المحور التي احتلت فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية لينتقل بعد ذلك التنافس بينهما على ليبيا بعدما احتلت فرنسا الجنوب الليبي، وإيطاليا شمالي البلاد.

مؤتمر باريس، الذي عقد في 29 مايو الماضي، وجمع للمرة الأولى الفرقاء الليبيين الأربعة الأكثر تأثيرا في المشهد السياسي والعسكري، حاول من خلاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تسجيل هدف بشباك روما، تحت عنوان كسر الجمود بوضع خارطة طريق لإنهاء الانقسام السياسي في ليبيا.

(مؤتمر باريس حول ليبيا هدف فرنسي في شباك إيطاليا)

بعدها طار وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي، جون إيف لودريان، إلى تونس ليبحث ملفات على رأسها الوضع في ليبيا، ثم توجه إلى ليبيا، حيث التقى أبرز الفاعلين في عملية التسوية السياسية، ودفعهم للالتزام بتعهدات إعلان باريس.

لقاءات ومحادثات ترمي باريس من ورائها إلى دعم حضورها القوي ومصالحها في الجنوب الليبي، وتحديدا بإقليم “فزان” الذي تعتبره “إرثها التاريخي” الذي احتلته من 1943 حتى استقلال ليبيا في 1951.

وتعتمد باريس في مسارها على تحركات تؤمنها سفارتها بليبيا (يوجد مقرها في تونس مؤقتا)، أو عبر قوى وقبائل تتمتع بدعم كامل من الإليزيه، لكنها ترنو، في الآن نفسه، إلى مد نفوذها شمالا، نحو الغرب والشرق، وهذا ما يثير حفيظة روما.

كما تحدثت تقارير إعلامية ليبية عن وجود مساعي فرنسية لنشر قوة لها غربي البلاد، وتحديدا بمدينة مصراتة (200 كلم شرق طرابلس)، حيث تتمركز قوات إيطالية تصر روما على نفي تواجدها، وهو ما سبق وأن فنده مجلس النواب الليبي في طبرق.

ويعد التواجد العسكري الفرنسي في الشرق الليبي مؤكد وليس محل جدل، ففي تصريحات للمتحدث باسم الحكومة الفرنسية ستيفان لوفول، في 2016، قال فيها: “بالتأكيد يوجد هناك (في ليبيا) قوات خاصة لنا للمساعدة.. فرنسا تتواجد في كل مكان لمكافحة الإرهاب”.

على الجانب الآخر اثار مؤتمر باريس غضب روما إلى الحد الذي دفع رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبه كونته، لإعلان معارضته تنظيم انتخابات بليبيا وفق الجدول الزمني المحدد بمؤتمر باريس.

ولعل أكثر ما تخشاه إيطاليا هو ضرب فرنسا لمصالحها ولسياستها في ليبيا، والقائمة بشكل أساسي على دعم السراج، والحفاظ على موقف دولي موحد بشأن التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة.

لكن إيطاليا تسبق فرنسا بخطوة في العاصمة السياسية الليبية، إذ أن روما فتحت أول سفارة أوروبية في طرابلس، وأمنتها بألف جندي، حسب تقارير إعلامية، مما يجعلها حضورها الدبلوماسي والعسكري أقوى في الغرب الليبي.

كما أن شركة “إيني” الإيطالية، تعتبر رقم واحد في التنقيب واستخراج وتصدير النفطي الليبي، الذي يعد أكبر احتياطي في إفريقيا، ومن شأن تزايد النفوذ الفرنسي في ليبيا أن يؤدي إلى مزاحمة شركة “توتال” الفرنسية، لإيني، على الثروة النفطية في البلد العربي.