منصور عطية

لم يكن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني مفاجئًا، بل توقعه الجميع منذ اللحظة الأولى لوصول الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض، وتأكدت التوقعات مع المهلة التي منحها في يناير الماضي.

لكن الانسحاب الأمريكي، أحادي الجانب من الاتفاق، ألقى بظلال وخيمة على منطقة الشرق الأوسط، مهددًا بنشوب مواجهة عسكرية تلوح في الأفق، رغم سريانه بموافقة إيران والقوى الكبرى (روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا) التي وقعته بجانب الولايات المتحدة.

إشعال الشرق الأوسط

ولم يختلف اثنان على التداعيات السلبية التي تنتظر الشرق الأوسط، بعد الانسحاب الأمريكي، وذهب كثيرون إلى أن الأمر من شأنه إشعال حرب جديدة في المنطقة يكون شعارها الحد من تنامي النفوذ الإيراني.

الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قال عبر تدوينة في حسابه على “فيسبوك“، إنه بدون الاتفاق النووي (JCPOA)، فإن “الولايات المتحدة الأمريكية ستتحمل خيارًا خاسرًا يتمثل في إيران ذات تسليح نووي، أو حرب أخرى في منطقة الشرق الأوسط”.

وقبل أيام قليلة من إعلان “ترامب” انسحاب بلاده، اعتبر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أن تلك الخطوة قد تؤدي إلى نشوب حرب حقيقية، وقال في مقابلة صحفية: “إن اتخاذ هذا القرار سيعني فتح صندوق باندورا، وقد يعني بدء حرب”.

وعلى الرغم من اللهجة التصعيدية في خطاب “ترامب” الأخير، وربما ما سبقه من تهديدات لإيران، فيما يخص برنامجها النووي، وبرنامج الصواريخ الباليستية، ونفوذها المتنامي بالمنطقة، فإن خيار الحرب يبدو أنه ليس القرار النهائي للولايات المتحدة.

“جون بولتون” مستشار “ترامب” للأمن القومي، والذي يوصف بأنه الأكثر عداء لإيران في الإدارة الأمريكية، والرافض -حتى قبل تعيينه- للاتفاق النووي، أكد أن “الانسحاب من الاتفاق لا يعني بداية عمل عسكري ضد إيران”.

وأشار إلى أن بلاده “مستعدة للدخول في مفاوضات موسعة يكون الغرض منها خروج اتفاق جديد يضمن ألا تشكل إيران مسار ضرر أو تهديد إقليمي أو دولي”.

سيناريوهات الحرب

إجمالًا يبدو واضحًا أن الولايات المتحدة التي أعلنت إدارتها الجديدة أنها لن تخوض حروبًا مجانية، لن تدخل حربًا مباشرة مع إيران، على الرغم من أن هذا الخيار يعد قائمًا بصورة أو بأخرى لكن يظل غير مرجح.

بطبيعة الحال لا تعني هذه الفرضية أن خيار الحرب مستبعد بالكلية، فهو وارد بقوة، لكن عبر وكلاء، وفي بؤر الأحداث الملتهبة، ومناطق النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.

ويعتبر مراقبون أن انسحاب واشنطن، وربما انسحاب طهران من الاتفاق لاحقًا، سيؤدي إلى إضعاف الرقابة على المشروع النووي الإيراني، وربما يزيد من فرص تمكن إيران من تطوير سلاح نووي، وقد كان ذلك واضحًا في تصريحات معظم المسؤولين الأوروبيين، الذين حذروا خلال الأيام الماضية من أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، ربما يجعل القوة النووية الإيرانية خارج السيطرة، وأنه من الأفضل الاستمرار في الاتفاق من أجل إحكام الرقابة على برنامج طهران النووي.

وعلى صعيد التوتر المتصاعد في منطقة الشرق الأوسط، فإن الانسحاب من الاتفاق سيجعل سياسة طهران، أكثر عدائية في المنطقة، وأنها ربما تنخرط بصورة أكبر في سياسات عدائية تجاه دول خليجية على رأسها السعودية، والتي تمثل عدوًّا إقليميًّا لها في المنطقة، خاصة وأن هناك حربًا بالوكالة تقودها الدولتان عبر وكلاء، في عدة دول حاليًا، ولا يستبعد كثيرون أن تتحول إلى حروب مباشرة.

وقد شهدت الفترة الأخيرة تبادلًا للتهديد والوعيد بين مسؤولين إيرانيين وإسرائيليين، خاصة بعد هجوم اتهمت إسرائيل بشنه على قاعدة التيفور العسكرية في سوريا، والتي يخدم فيها عسكريون إيرانيون، وأدت -وفقًا لتقارير- إلى مقتل عدد من هؤلاء العسكريين.

إيران توعدت بأن ردها على تلك الهجمة الإسرائيلية هو بمثابة الأمر الحتمي، في حين هددت إسرائيل بدك المنشآت النووية الإيرانية، في حالة إقدام طهران على ضرب تل أبيب.

وقد تكون سوريا ساحة لمواجهة عسكرية مباشرة بين أمريكا وحلفائها مثل السعودية ومصر والإمارات من جهة، وإيران ومن ورائها روسيا والنظام السوري من جهة أخرى.

ويعزز من هذا السيناريو الجدل الذي أثير مؤخرًا حول توجه أمريكا ودول عربية إلى إحلال قوات تلك الدول محل القوات الأمريكية التي ينتظر أن تنسحب من هناك في وقت قريب.

ومن المرجح بقوة أيضًا أن مسار أية حرب إيرانية اسرائيلية مقبلة سيكون عبر استهداف أذرع إيران، سواء بتوجيه ضربات لحزب الله اللبناني، الذي يعد أحد أهم أذرع إيران في المنطقة ومنفذ سياستها الأول، أو حتى تنفيذ ضربات ضد جماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن والمدعومين بقوة من طهران.

بعيدًا عن هذه الحرب بالوكالة، فلا يستبعد كثيرون أن يصل الأمر لتوجيه الولايات المتحدة ضربات في العمق الإيراني، وذلك من خلال قواعدها الرابضة في دول الخليج، ما يعني تلقائيًّا أن تكون المواجهة مباشرة بين إيران وتلك الدول وفي مقدمتها السعودية.

اقتصاد في مهب الريح

عالم المال والاقتصاد ليس بمنأى عن التداعيات السلبية للانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وهو ما ترجمه “بولتون” بتأكيده أن العقوبات الأمريكية ستسري فورًا على العقود الجديدة، وأنه سيكون أمام الشركات المتعاونة مع طهران 6 أشهر كحد أقصى لوقف أنشطتها مع إيران.

شبكة “سي إن إن” الأمريكية، رصدت في تقرير لها عدة نقاط لأبرز تلك التداعيات، مشيرة إلى أن شركات أمريكية وأوروبية ستتضرر كثيرًا من الانسحاب؛ فضلًا عن الاقتصاد الإيراني نفسه.

تمتلك إيران رابع أكبر احتياطي من النفط الخام في العالم؛ فضلًا عن نحو خُمس احتياطيات الغاز الطبيعي، وزادت البلاد من الإنتاج منذ تخفيف العقوبات إلى حوالي 3.8 مليون برميل في اليوم، بمقدار مليون برميل نفط يوميًّا بشكل إضافي على معدل عام 2015، قبل التوقيع على الاتفاق.

وعليه، فإن فرض عقوبات جديدة على صادرات النفط الإيرانية من شأنه أن يؤثر على المعروض العالمي من النفط، وقد يتسبب في ارتفاع الأسعار.

ولعل أكبر الصفقات التي تم توقيعها مع شركات أجنبية حتى الآن كانت مع شركتي “بوينج” الأمريكية و”إيرباص” الأوروبية، لتحديث أسطول إيران المتهالك من الطائرات، بقيم تجاوزت 21 مليار دولار.

وبينما ظلت العديد من الشركات الأجنبية الكبرى تتخوف من إقامة علاقات تجارية مع إيران؛ بسبب إمكانية عودة العقوبات، فقد قرر عدد منها خوض مغامرة الاستثمار بالفعل.

فوقعت شركة “توتال” اتفاقًا بقيمة ملياري دولار، للمساعدة في تطوير “حقل غاز الشمال” (جنوب فارس) العملاق، بالاشتراك مع شركة النفط الوطنية الصينية “سي. إن. بي. سي”، كما فازت شركة جنرال إلكتريك (GE) الأمريكية بعقود بملايين الدولارات من الطلبات من إيران عام 2017، وفقًا لوثائق الشركة، عن أعمالها في مجال النفط والغاز.

وفي عام 2017، أعلنت شركة فولكس فاجن الألمانية، أنها ستبيع السيارات في إيران لأول مرة منذ 17 عامًا.

كما استفادت شركات الطيران من الانفتاح على إيران كوجهة تجارية وسياحية منذ تخفيف العقوبات، وبشكل خاص الأوروبية، مثل الخطوط الجوية البريطانية ولوفتهانزا الألمانية.

واستفادت سلسلة فنادق عالمية من ذلك الانفتاح، حيث كانت مجموعة فنادق “أكور” الفرنسية، أول سلسلة فنادق دولية تفتح فرعًا لها في إيران، وذلك في عام 2015، كما أعلنت كل من “ميليا” الإسبانية، و”روتانا” الإماراتية، عن خطط لفتح فنادق في إيران.