منصور عطية

أيام قلائل فصلت بين تصريحين متناقضين للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإدارته بشأن قوات بلاده المتواجدة في سوريا، بين تعهد بسحبها في القريب العاجل وموافقة على إبقائها لفترة أطول، لم تتحدد بعدُ.

بينهما كانت فيما يبدو كلمة السر التي حسمت تراجع ترامب، وهو ما شكلته كلمة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان حول رغبة بلاده في بقاء القوات الأمريكية هناك، فهل استجاب الأمير لشرط الرئيس ودفع الفاتورة؟ ولماذا اضطر لذلك؟

ترامب المتراجع

وكالة رويترز نقلت عن مسؤول كبير بالإدارة الأمريكية، الأربعاء، قوله: إن الرئيس دونالد ترامب وافق في اجتماع لمجلس الأمن القومي على إبقاء القوات الأمريكية في سوريا لفترة أطول، لكنه يريد سحبها في وقت قريب نسبيًا.

وأضاف المسؤول أنَّ ترامب لم يقر جدولًا زمنيًا محددًا لسحب القوات، وقال: إنه يريد ضمان هزيمة تنظيم داعش ويريد من دول أخرى في المنطقة بذل مزيدٍ من الجهود والمساعدة في تحقيق الاستقرار بسوريا، متابعا: “لن نسحب (القوات) على الفور لكن الرئيس ليس مستعدًا لدعم التزام طويل الأجل”.

ما كشفه المسؤول يأتي في أعقاب تصريحات مثيرة، لابن سلمان أعلن خلالها أنه يدعم “بقاء القوات الأمريكية في سوريا على المدى المتوسط”، موضحًا أنّ “وجود قوات أمريكية في سوريا، من شأنه الحد من طموحات إيران في توسيع نفوذها”.

وأشار إلى أنَّ “بقاء القوات الأمريكية في سوريا، يسمح أيضًا لواشنطن بأن يكون لها رأي في مستقبل سوريا، محذرًا من أن “إيران ستقوم من خلال حلفائها الإقليميين، بتأسيس طريق بري يمتد من بيروت عبر سوريا والعراق إلى طهران ما من شأنه أن يمنح إيران موطئ قدم أعظم في المنطقة”.

تلك التصريحات تأتي بعد ساعات من تصريح للرئيس الأمريكي، قال فيه: إنّ قواته البالغ عددها نحو 2000 جندي ستغادر سوريا في وقت قريب.

وأضاف أنه يريد الخروج من سوريا “لكن إذا كانت السعودية تريد بقاء القوات الأمريكية في سوريا فعليها دفع فاتورة بقائها”.

وتابع ترامب: “مهمتنا الأساسية فيما يتعلق بهذا هي التخلص من داعش، لقد أنجزنا هذه المهمة تقريبا، سنتخذ قرارًا في وقت سريع جدًا”، وقال: “السعودية مهتمة جدًا بقرارنا. وقلت، حسنا، كما تعلمون فإذا كنتم تريدوننا أن نبقى فربما يتعين عليكم أن تدفعوا”.

السعودية تدفع لمرتزقة!

الشاهد الأبرز في هذا التزامن بين التعهد والتراجع وتصريح ابن سلمان يشي بأن الرياض استجابت لشرط ترامب لإبقاء قواته وسددت الفاتورة الكاملة، امتدادًا لسلسلة من الفواتير التي حولت المملكة إلى بقرة تحلبها واشنطن متى وكيف شاءت.

فخلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة كشف “ابن سلمان”، عن تدشين خطة استثمارات بين المملكة والولايات المتحدة بإجمالي 200 مليار دولار، مشيرًا إلى أنه تم بالفعل تنفيذ 50 % من الاتفاقيات الاقتصادية المبرمة بين البلدين.

وفي كلمات شديدة الرمزية والإيحاء، أضاف لدى استقباله وفد المملكة: “السعودية بلد ثري جدًا وستعطي الولايات المتحدة بعضا من هذه الثروة، كما نأمل، في شكل وظائف وشراء المعدات العسكرية”.

المثير أن تلك الصفقة الجديدة تأتي بعد أقل من عام على الصفقة التاريخية التي أعلنها ترامب، أثناء زيارته للسعودية مايو الماضي، بقيمة تجاوزت 400 مليار دولار بينها 110 مبيعات أسلحة.

على نحو مرتبط بدور المال السعودي في زيارة ابن سلمان، كان المشهد الأكثر إثارة للجدل، عندما حمل ترامب لوحة تشبه “السبورة” تظهر مبيعات أسلحة أمريكية للسعودية بقيمة 12.5 مليار دولار.

وعندما بدأ في تفصيل مبيعات الأسلحة وذكر قيمها كل على حدة، باغت ابن سلمان بعبارة مثيرة ثم واصل الحديث، حيث قال: “هذه مبالغ زهيدة بالنسبة لكم”، لتعلو بعدها ابتسامة غطّت وجه الأمير.

وبقدر ما تجلبه تلك الصفقات وما يستزفه ترامب من أموال سعودية من مصالح للرجل تكسبه مزيدًا من الشعبية والنفوذ، بقدر ما يتعرض لانتقادات واسعة وصلت إلى حد اعتبار أن الجيش الأمريكي في عهد ترامب مجرد مرتزقة أسرى لمن يدفعون المال.

مجلة “The American Conservative”، كتبت: “يبدو أن حماية حياة الجنود الأمريكيين والمصالح الأمريكية لا تهم ترامب، طالما أن هناك من يعرض دفع الثمن”. وتابعت: “هذا يعني أن ترامب يعتقد أن خدمات الجيش الأمريكي متاحة للاستئجار من قبل زبائننا المستبدين متى ما يقدمون قدرًا كافيًا من المال”.

وتابعت: “لا يكترث ترامب إلى ما إذا كان البقاء في سوريا يجعل أمريكا أكثر أمنًا، لكنه يركز فقط على ما إذا كان هناك طرف آخر يرغب في دفع الفاتورة”.

وشددت المجلة في تقرير لها على أنه “إذا كان البقاء في سوريا مهمًا لأمن الولايات المتحدة إلى درجة تبرر المخاطرة بحياة الجنود الأمريكيين، فلا ينبغي أن نكترث لما إذا كان السعوديون سيدفعون مقابل ذلك أم لا”.

واعتبرت المجلة أن الوجود في سوريا ليس مهمًا لأمريكا إلى هذه الدرجة، محذرة من تحول القوات الأمريكية إلى “جيش مرتزقة” لخدمة السعوديين، وعبرت عن المخاوف من أن ترامب سيتخذ قراره حول هذا الموضوع انطلاقا من “اعتبارات هي أكثر خبثًا”.

أغراض بن سلمان

في كل تلك السياقات والتطوات المتسارعة يبدو أن ثمة تساؤلًا في غاية الأهمية، حول الأغراض الحقيقية التي تدفع السعودية إلى الرغبة الملحة في استمرار تواجد القوات الأمريكية بسوريا حتى لو كلفها ذلك المليارات.

الرغبة المعلنة من قبل ابن سلمان كان عنوانها مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا، وربما تكون تلك المخاوف السعودية من التواجد الإيراني هناك مفهومة ومعتبرة في سياق الصراع المحتدم بين القوتين في العديد من البؤر الملتهبة بالمنطقة.

لكن الرياض قد تبحث عما هو أبعد، لتعويض الخسائر التي تعرضت لها ونفوذها المتلاشي بعد سنوات من الدعم الكبير لبعض فصائل المعارضة المسلحة، إلى حد يلصق بطهران التسبب فيما يمكن اعتباره هزيمة للسعودية.

وعليه فإنَّ القوات الأمريكية الباقية بتمويل سعودي ستلعب دور “صراع النفوذ بالوكالة”، نظرا للاستحالة التي تجدها الرياض في إرسال جنودها لسوريا، وسط وضع لا تحسد عليه في المستنقع اليمني.

ليس بعيدًا عن صراع النفوذ، فإنَّ التواجد التركي القوي في سوريا وتحديدًا بعد استيلائها على مدينة عفرين يزعج الرياض كثيرًا لدرجة وصف إعلامها هذا التدخل التركي باحتلال أرض عربية، رغم إعلان أنقرة أنها أبلغت سفراء 6 دول عربية بينها السعودية بعملية “غصن الزيتون” التي انتهت بتطهير عفرين.

ومن غير المستبعد أن يكون التوجه السعودي راغبًا فقط في إسداء الخدمات للولايات المتحدة، التي تلعب دور شرطي الحماية من التهديدات الإيرانية، ليس للصراع على النفوذ وإنما فقط كمقابل لهذا الدور.