لا شيء في السياسة يُطرح عبثًا، ولا فكرة يتم تسريبها إلى العلن إلا إذا كان هناك من يعمل على تنفيذها. عندما تحدث ترامب عن تحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، لم يكن ذلك مجرد اقتراح طائش أو رؤية اقتصادية حالمة، بل كان امتدادًا لمخطط بدأ منذ عقود طويلة، هدفه النهائي هو توسيع حدود إسرائيل على حساب فلسطين والدول المجاورة. ولكن هذه المرة، يُراد تنفيذ المشروع بغطاء جديد: الاستثمار والسياحة و”التنمية الإقليمية”.
إذا كانت “ريفييرا الشرق الأوسط” هي العنوان الجديد، فإن الترجمة العملية لها هي تهجير الفلسطينيين، وتصفية قضيتهم، وجعل سيناء جزءًا من مشروع إسرائيل الكبرى، سواء كان ذلك عبر التهجير المباشر أو خلق ظروف تجعل البقاء مستحيلًا. وما بين ترامب، الذي لا يخفي نواياه، والسيسي، الذي يؤدي دوره المطلوب دون أن يطلب منه أحد، تبدو ملامح الكارثة القادمة أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.
نكبة جديدة بغطاء اقتصادي
المجازر التي استمرت في غزة لأكثر من 15 شهرًا لم تكن مجرد حرب أخرى، بل كانت مقدمة ضرورية لفرض حل نهائي على الفلسطينيين. إبادة ممنهجة، تجويع، حصار، منع دخول المساعدات، قصف متواصل، وتهجير داخلي مستمر.. كل هذا كان يهدف إلى إيصال الفلسطينيين إلى لحظة يختارون فيها الرحيل بأنفسهم. وعندما تأتي “المبادرة الدولية” التي تتحدث عن منح الفلسطينيين فرصًا جديدة للعيش في أماكن أخرى، سيكون من السهل تمريرها على أنها “خيار منطقي” وليس جريمة حرب متكاملة الأركان.
لكن لماذا سيناء؟ ولماذا هذا الإصرار على أن تكون البديل الجغرافي لغزة؟ ببساطة، لأن سيناء تمثل المعبر الأكثر أمانًا لإسرائيل لتحقيق مشروعها دون أن تضطر لتحمل تبعات الاحتلال المباشر. في الضفة الغربية، استيطان وضم تدريجي، وفي غزة، تفريغ للسكان، وفي النهاية، إسرائيل تتمدد دون أن تضطر لإطلاق رصاصة واحدة داخل أراضيها.
السيسي.. الدور الوظيفي المعتاد
ليس هناك وهم أكبر من الاعتقاد بأن النظام المصري يقف في وجه هذه المخططات. كل التصريحات التي يدلي بها المسؤولون المصريون عن رفض التهجير ليست سوى جزء من المشهد العام لإخفاء التواطؤ الحقيقي. السيسي، الذي لم يكن يومًا خارج دائرة تنفيذ المصالح الإسرائيلية، هو الشخص المثالي لضمان مرور هذا المشروع بأقل قدر ممكن من الاعتراضات العلنية.
لكن داخل مصر، لا يبدو الجميع متحمسًا للمخطط. هناك انقسام واضح داخل الدوائر الأمنية والعسكرية، حيث يدرك بعض العقلاء أن التنازل عن سيناء بهذا الشكل قد يكون الخطوة الأولى نحو تفكيك الدولة المصرية نفسها. هؤلاء يعلمون أن تحويل سيناء إلى “حل للفلسطينيين” يعني تحويلها إلى منطقة غير مستقرة إلى الأبد، وإلى نقطة نفوذ مباشرة لإسرائيل تحت ستار “الحلول الإقليمية”.
ومع ذلك، فإن هذه الأصوات ليست صاحبة القرار النهائي. فمنذ سنوات، كان السيسي هو الضامن الأول للمصالح الإسرائيلية، بدءًا من تدمير الأنفاق في رفح، مرورًا بتحويل معبر رفح إلى أداة ضغط سياسي، وصولًا إلى التنسيق الأمني الكامل مع الاحتلال في سيناء. وبالتالي، فإن رفض النظام العلني للتهجير ليس أكثر من تمثيلية سياسية لإخفاء ما يجري ترتيبه خلف الأبواب المغلقة.
ترامب وإسرائيل: الحلم الذي لم ينتهِ
ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض، لم يكن يومًا رئيسًا أمريكيًا تقليديًا، بل كان أشبه بمنفّذ صريح لمخططات إسرائيل دون أي رتوش دبلوماسية. في فترة حكمه الأولى، فعل ما لم يجرؤ أي رئيس أمريكي قبله على فعله: نقل السفارة إلى القدس، أطلق صفقة القرن، ضغط لإنهاء عمل الأونروا، دفع باتجاه التطبيع مع إسرائيل عبر “اتفاقيات إبراهيم”، والآن، لا يخفي رغبته في تصفية القضية الفلسطينية بالكامل عبر التهجير وإعادة رسم خرائط المنطقة.
الفرق الوحيد بين ترامب والسيسي هو أن الأول يصرّح علنًا، بينما الثاني ينفّذ بصمت. ترامب يتحدث عن “ريفييرا الشرق الأوسط”، والسيسي يُمهد الأرضية لتنفيذه، سواء عبر فرض مزيد من الحصار على غزة، أو عبر استمرار التعاون الأمني مع إسرائيل في سيناء، أو عبر ضمان أن يبقى الموقف المصري الرسمي في إطار الكلام فقط، دون أي تحرك فعلي لعرقلة المخطط.
المنطقة أمام لحظة حاسمة
إذا كان الاحتلال قد نجح في جعل الضفة الغربية محتلة بشكل كامل تحت ستار “الإدارة الذاتية”، وإذا كان قد حوّل غزة إلى أكبر سجن مفتوح في العالم، فإن خطوته القادمة هي التخلص من غزة كليًا، ودمج القضية الفلسطينية في إطار مشاريع إقليمية تجعلها مجرد “مشكلة لاجئين” لا أكثر. “ريفييرا الشرق الأوسط” ليست سوى واجهة تجميلية لخريطة جديدة يتم رسمها، والمطلوب من الأنظمة الوظيفية هو تنفيذ ما يُطلب منها دون ضجيج.
السؤال لم يعد هل سيتم التهجير أم لا، بل متى، وبأي طريقة سيتم تمريره ليبدو وكأنه حل إنساني وليس جريمة حرب. وما لم يكن هناك موقف عربي واضح، وما لم يتحرك الشارع الفلسطيني والعربي لرفض هذا المخطط، فإن حدود إسرائيل الكبرى قد تصبح حقيقة واقعة، بلا جيوش، وبلا حروب، بل فقط عبر الأنظمة التي تعرف كيف تنفذ الأوامر دون نقاش.
اضف تعليقا