العدسة – منصور عطية

على الرغم من الانتقادات الواسعة التي جلبتها صورة نشرها حاخام يهودي بجانب العاهل المغربي الملك محمد السادس، إلا أن السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي المحيط بالصورة ربما لا يجعلها مستغربة إلى هذا الحد، خاصة لدى المغاربة.

فلطالما عُرف المغرب بتعايش بين العرب المسلمين واليهود قلّ نظيره في الوطن العربي بأكمله، ولعل هذا ما شجع الحاخام “إسرائيل جولدبرج” على نشر الصورة بحفاوة بالغة، مصحوبة بتعليق كشف خلاله حالة من الود سيطرت على اللقاء الذي جمعهما بأقدم كنيس يهودي في العاصمة الفرنسية باريس.

وفي غير الأراضي المحتلة، فإنك لن تشاهد مجموعات يهودية تسير في أحد الشوارع العربية بزيها التقليدي (التليت)، أو يذهبون إلى معبد يتلون صلواتهم بأريحية، إلا في المغرب، التي يحضر ممثل عن ملكها الاحتفالات الرسمية لليهود بانتظام.

لمحة تاريخية عن يهود المغرب

تُجمع غالبية الدراسات التاريخية إلى أن الوجود اليهودي بالمغرب يضرب بجذوره في أعماق التاريخ؛ حيث ظهر مع التجار اليهود الذين وصلوا مع الفينيقيين في القرن التاسع قبل الميلاد، وفي أعقاب خراب الهيكل الأول عام 586 ق.م.، ثم القرن الثالث قبل الميلاد بشكل عام؛ حيث تمكنوا من الدخول إلى مناطق الأمازيغ في الجنوب من خلال التأثير المباشر بين الجماعات اليهودية والقبائل الأمازيغية.

احترف اليهود الأوائل في المغرب كل ركائز الحياة الاقتصادية من رعي وصناعة، علاوة على التجارة التي حققوا منها ثروات طائلة، خاصة تجارة الرفاهيات والرقيق.

لكن أكبر هجرة لليهود إلى المغرب الأقصى بدأت مع ظهور علامات سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس عام 1492، والتهجير القسري الذي تعرض له المسلمون واليهود على يد الإسبان، وهروبهم من محاكم التفتيش.

وتقول تقديرات إن الجالية اليهودية في المغرب حينها تجاوزت 100 ألف شخص، فيما أتى نحو 30 ألفا من إسبانيا والبرتغال، ولا يزال كثير من هؤلاء يحملون أسماء أسرية لمدن إسبانية تعود أصولهم إليها.

ينقسم المغاربة اليهود إلى قسمين: “المغوراشيم” ومعناها بالعبرية المطارد وهم يهود الأندلس، و”الطشابيم” الذين سكنوا المغرب قبل الفتح العربي الإسلامي.

“المغوراشيم” هم اليهود الذين هربوا من إسبانيا والبرتغال بعد طردهم من قبل فرديناند وإيزابيلا عام 1492، بينما ترجع أصول الكثير من “الطشابيم” إلى الأمازيغ الذين تحولوا إلى اليهودية والتصقوا بديانتهم، وفي زمن الفتح العربي الإسلامي الأول مع بداية القرن الثامن الميلادي، كانت هناك أعداد من الممالك اليهودية الصغيرة في الجزائر والمغرب.

وتحالف إدريس الأول، أول حاكم مسلم في المغرب، أولًا مع السكان اليهود ضد مؤيدي الخليفة العباسي هارون الرشيد، ولكنه تحول لاحقا ضدهم.

“تسامح” برعاية الملك

“يتمتع المغرب اليوم بمستوى أمان عال مقارنة بدول المنطقة، فيعيش اليهود بأمان بجانب المسلمين، يتعاملون تجاريا مع بعضهم البعض ويعايدون بعضهم البعض في الأعياد والمناسبات”، هكذا تقول “لعزيزة دليل” نائب رئيس جمعية ميمونة المغربية.

وتعددت المبادرات الحكومية في المغرب الرامية إلى إعادة الاعتبار للمكون اليهودي، منها مشاريع تابعها الملك محمد السادس، كترميم الكنائس اليهودية كـ”صلاة الفاسيين” عام 2013، كما تقود الجمعيات الناشطة في نفس المجال الكثير من المبادرات الأخرى.

ومن خلال تلك المبادرات الميدانية تعتقد “دليل” أن عدد يهود المغرب – بتقديرات مايو 2017 – يصل إلى 4 آلاف شخص غالبيتهم يستقرون في المدن الكبرى، كالدار البيضاء وفاس والرباط ومراكش وأكادير، بحسب تقارير إعلامية.

“هنا نعيش في تعايش وتآخ ولا نشعر بأي تمييز، نعيش في احترام تام متبادل مع إخوتنا المغاربة المسلمين”، يقول أحد اليهود المغاربة في التقرير.

وتضيف “دليل”: “نقوم في الجمعية (ميمونة) بتنظيم مجموعة من اللقاءات وبالاحتفال بالمناسبات الدينية، الغاية منها هو إحياء الذاكرة المشتركة للمغاربة، نقوم مثلا بتنظيم إفطار في رمضان حيث يجتمع المغاربة باختلاف دينهم حول نفس المائدة”.

جمعية ميمونة، إطار غير حكومي تأسس عام 2007، وفي عام 2011 نظمت الجمعية ندوة دولية حول الهولوكوست، وصفتها صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية بـ” الأولى من نوعها في العالم العربي”، وحظي اللقاء بدعم ورعاية عاهل البلاد.

رئيس فيدرالية اليهود المغاربة بواشنطن “شارل دحان” يقول إن “معظم اليهود المستقرين حاليا بالمغرب من كبار السن، ويفكر الكثير من اليهود المستقرين خارج البلاد في العودة ومعظمهم من الجيل الجديد، الذين ازدادوا خارج المغرب، يريدون العودة للتعرف على بلدهم وموطن أجدادهم”.

جذور التعايش وخصوصية العلاقة

يقر اليهود بأن المغرب استقبلهم وآواهم بمنطق متسامح، ولم يكن الاستقرار اليهودي مسألة عابرة بل إن ملاحقة القوى الأجنبية لهم جعلهم يعددون مواطن استقرارهم واختلطوا مع القبائل الأمازيغية بالمغرب في الجبال حتى تهود أفراد من بعض القبائل.

وكان لقدم الاستقرار بالمغرب انعكاسات بالغة على طبيعة اليهودية المغربية، حيث أثرت خصوصية البيئة وتميز الوجود الإسلامي بالمغرب وما أفرزه من تبلور لسياق حضاري مغاير للسياق الحضاري الغربي الذي تبلورت من داخله الظاهرة اليهودية الصهيونية المعاصرة.

وفي دراسة عبد الوهاب المسيري عن “من هو اليهودي؟” يبرز أن الجماعات اليهودية في العالم طورت هويات يهودية خاصة بها، والتي تحددت في غياب سلطة يهودية مركزية، دينية أو دنيوية، وعبر الاحتكاك مع عشرات التشكيلات الحضارية ومن خلالها، وتتسم هذه الهويات باستقلال نسبي عن سياقها الحضاري، شأنها شأن هويات الجماعات الإثنية والدينية، ولكنها في الوقت نفسه لا تنتمي إلى هوية يهودية واحدة عالمية.

واتسمت الهوية اليهودية المغربية بتدينها بل وتشددها في الالتزام الحرفي بالدين اليهودي ومعتقدات التوراة والتلمود، ويمكن هنا الإحالة على دراسات حاييم زعفراني (جاوزت السبعين دراسة عن مختلف أبعاد الهوية اليهودية المغربية وإبراز الطابع الديني لها).

بينما ركزت دراسات “بن عامي إسشار” على ظاهرة أولياء وقديسي اليهود المغاربة، حيث أحصت وجود 652 وليًا ضمنهم 126 مشتركا بين المسلمين واليهود و15 وليا مسلما يقدسه اليهود و90 وليا يهوديا عند المسلمين، ويتنازعون في 36 وليا كل ينسبه إليه.

بعد قيام حكم الأدارسة بالمغرب سمح إدريس الثاني لليهود بالإقامة والعمل في مدينة فاس، وكان للتسامح الذي وجدوه أبلغ الأثر في قصد المدينة من طرف يهود المغرب من مختلف الجهات، فقد اكتسبوا وضعية أهل الذمة، فكان موقفهم قوامه عدم الاعتداء والتعامل بالمعروف وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لليهود دينية أو قانونية أو وقفية أو قضائية، ومنح سلاطين المغارب للعديد من اليهود، كأفراد أو كقبائل، ظهائر التوقير والاحترام.

في ظل حكم المرابطين، تقلد يهود الأندلس والمغرب مناصب رفيعة في الدولة، خصوصًا المناصب الاقتصادية والدبلوماسية، وفي بداية دولة الموحدين عند دخولهم مدينة مراكش عام 1062، والتي أصبحت فيما بعد عاصمة لإمبراطورية واسعة تمتد من المغرب إلى إسبانيا، مُنع اليهود من الإقامة فيها ليلًا، وسبب ظهور بعض هذه السياسات هو الاختلالات التي كانت تطرأ في حالات الفتن والاضطراب في انتقال السلطة وتغير الدول.

لكن سرعان ما بدأ يهود أغمات، الواقعة على بعد 75 كيلومترا من مراكش، يتوافدون على مراكش للتجارة، فسُمح لليهود بدءًا من القرن الثاني عشر بالإقامة في مراكش، فنمت جالية كبيرة فيها، واستمرت حتى بعد ظهور المرينيين.

وباستقرار حكم المرينيين، لجأ العديد من يهود إسبانيا للمغرب واستقروا في أنحاء مختلفة منه، وبعد ولادة الدولة السعدية، ومنذ عهد المؤسس الأول للسلالة، انتهجت سياسة تتعامل مع اليهود بثبات ملحوظ، حيث عوملت الجاليات المحلية في المملكة معاملة حسنة، وشجعت الهجرة إلى المغرب، وحصل بعض اليهود على مناصب هامة في البلاط.

الارتباط بأرض الميعاد

حافظت اليهودية المغربية على ارتباطها الشديد بفلسطين، فلم تنقطع الهجرة أبدًا إليها طيلة كل القرون، وكان مصدرها عمومًا جماعات الطلبة الذين كانوا يرسلون إلى “يشفوت” حواضر الثقافة اليهودية الكبرى في القدس (القدس، طبرية، صفد) أو أولئك الذين غالبا ما كانوا يرحلون أملا في أن يقضوا بقية حياتهم في “الأراضي المقدسة”، وقبل بدء الهجرة اليهودية الأوروبية فإن اليهود المغاربيين شكلوا أحد أهم الجماعات بالأرض المقدسة.

ومن النمادج المقدمة على الهجرات العلمية، حالة “حاييم بن عطار في 1739، والذي اتجه إلى الأرض المقدسة ومعه العديد من تلامذته الذين تزايد عددهم على طول المسافة التي كان يقطعها، وبعد أن أقام مدة بإيطاليا -حيث نشر كتابه أورهايم (نور الحياة)، وهو تفسير توراتي أصبح من أمهات التفاسير الربانية- انتقل إلى القدس فأسس بها، بواسطة الأموال التي وهبها له يهود إيطاليا، “يشفت” (كنيست إسرائيل) ثم مات هناك سنة 1743.

وفي الجنازة ومراسيم الدفن لليهود بالمغرب يسود الاعتقاد العامي بأن بعث الأموات سيحدث حتما في الأرض المقدسة، كما يبرز حضور التوراة وإسرائيل ومجيء المخلص في الشعر اليهودي المغربي.

وفي الحياة الدينية والشعائر، يظهر الارتباط القوي بعهد كل من النبي داوود والنبي سليمان (عليهما السلام)، ففي ليالي السبت التوسلية يقع ترديد مزامير داوود وأناشيد الملك سليمان ثم الألحان والأغاني والتراتيل التي نظمها كتاب الأجيال القديمة.

وهناك الاحتفالات الخاصة بأيام الشؤم (التاسع من أغسطس/ آب – غشت) والتي تمتد طيلة 3 أسابيع في ذكرى الخراب الأول والثاني للهيكل، ولها طقوس خاصة وشعائر وعادات ومراثٍ وبكائيات.

بعد نكبة فلسطين عام 1948 وقيام دولة الاحتلال، وانتهاء عهد الحماية الفرنسية والإسبانية في المغرب عام 1956، ووقوع نكسة 1967، هاجر الكثير من يهود المغرب إلى إسرائيل، فيما فضل بعضهم الاستقرار في فرنسا، وهاجرت فئة إلى كندا، وأخرى أقل إلى إسبانيا.

ويمكن القول إنّ هجرة المغاربة اليهود إلى إسرائيل بدأت بدعم من المستعمر الفرنسي على فترات، الفترة الأولى ما بين 1948 و1956، في ذلك الوقت كانت فرنسا هي الحاكمة، تعطي جميع التسهيلات، ومن مصلحتها أن تجد حلًّا لجزء من المجتمع اليهودي المغربي الذي كان يعيش في ظروف صعبة.

وعام 1956، جاء استقلال المغرب، فمنح الملك الراحل محمد الخامس حقوقا سياسية لليهود، وعين وزيرا يهوديا هو “بن زاكين” في الحكومة الأولى والثانية، ووقف الهجرة؛ حيث توقفت عملية تسهيل إعطاء الجوازات لليهود المغاربة ولكنها لم تمنع كليا.

لكن، وبعد وفاة محمد الخامس، تغيرت الأمور؛ إذ كان هنالك مكتب مخصص لـجوازات سفر اليهود وسقطت مقاومة الوطنيين اليهود لمسألة التهجير، بعدما أصبح القانون يسهل عملية التهجير بتسهيل إعطاء الجوازات لليهود المغاربة، وهكذا بلغ عدد يهود المغرب في إسرائيل حوالي 400 ألف سنة 1973.