أثارت واقعة القتل الوحشي للصحفي السعودي “جمال خاشقجي” داخل قنصلية بلاده بإسطنبول، في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، غضبا عالميا ضد المملكة وولي العهد “محمد بن سلمان” امتدت نيرانه لتلفح الرئيس “دونالد ترامب” من خلال ضغوط داخلية رهيبة بسبب موقفه الداعم للأمير الشاب.  

ودفع موقف “ترامب” الداعم على طول الخط لولي العهد السعودي، الذي خلصت وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (CIA) إلى أنه أصدر أمرا بقتل “خاشقجي”، إلى اتهامه من قبل أعضاء الكونغرس ومن وسائل إعلام محلية بالتواطؤ والإخلال بقيم بلاده.

ويمكن القول إن الجانب المضيء الوحيد في موقف الولايات المتحدة هو مسارعة عدد من الجهات الأمريكية الفاعلة (رسمية أو غير رسمية) إلى استخدام الأدوات والصلاحيات المتاحة لهم في قضية “خاشقجي” التي هزت العالم برمته.

بينما ظل الجانب الأكثر قتامة وتعقيدا هو موقف “ترامب” ومسؤولين بإدارته، الذين التزموا التستر على ولي العهد وأخذ خطوة للأمام وخطوتين للخلف لكسب الوقت.

وإجمالا، تنوعت الأدوات التي لجأت لها الجهات الفاعلة في الولايات المتحدة -سواء محليا أو دوليا- في التعاطي مع قضية “خاشقجي” منذ اليوم الثاني لاختفائه بعد دخول القنصلية ما بين تهديد ووعيد وترغيب وتعليق تعاون وإجراء اتصالات وفرض عقوبات.. وغيرها.

واقتصرت الأدوات التي استخدمتها واشنطن في التعامل مع قضية اغتيال “خاشقجي” في الأيام الأولي للحادث على إصدار بيانات وتصريحات روتينية، من “ترامب” ووزير خارجيته “مايك بومبيو” بالتعبير عن القلق، والتأكيد على عدم معرفة تفاصيل عن الحادث، ومطالبة الرياض بإجراء تحقيق شفاف.

وبعد الكشف عن تسريبات ملابسات قتل “خاشقجي”، ارتفعت لهجة “ترامب” بعض الشيء؛ ليصف، في 10 أكتوبر/تشرين الثاني، ما حدث “بالرهيب “مشيرا إلى أن بلاده ستنظر “بجدية كبيرة” إلى ما حصل، وفي هذه الأثناء كشفت تقارير أنه أجرى اتصالات مع “بن سلمان”.

تحركات داخلية

وعلى النقيض من موقف “ترامب” و”بومبيو”، الذي وصفه مراقبون حينها بـ”المتخاذل”، كانت هناك تحركات أكثر قوة وفعالية تجري في مجلس الشيوخ الأمريكي في 10 أكتوبر/تشرين الثاني.

وكان لافتا في هذا الصدد، قيام 22 عضوا في مجلس الشيوخ بتفعيل “قانون ماغنيتسكي” المتعلق بحقوق الإنسان؛ وذلك بهدف إجبار الولايات المتحدة على فتح تحقيق في القضية والتمهيد لفرض عقوبات على الأطراف المتورطة.

وبالتزامن مع ذلك، أعلن وزير الطاقة الأمريكي السابق “إرنست مونيز” إنه سيعلق دوره كمستشار في مشروع “نيوم” السعودي إلى حين معرفة المزيد من المعلومات عن “خاشقجي”.

وبعد إفادة “ترامب” رسميا، في 18 أكتوبر/تشرين الثاني، بمقتل “خاشقجي”، أعلن وزير الخزانة الأمريكي “ستيفن منوتشين” انسحابه من المشاركة في مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار” في الرياض (دافوس في الصحراء)، وهو الأمر الذي طالبه به عضو مجلس الشيوخ “ماركو روبيو”. 

وسبق ذلك، إعلان شركات إعلامية وصحفيين ومسؤولين مقاطعتهم المؤتمر ذاته؛ حيث انسحبت صحيفتا “إيكونومست” البريطانية، و”نيويورك تايمز” الأمريكية، وشبكة “سي.إن.إن” الأمريكية من المشاركة في المؤتمر.

وقالت شركة “فياكوم” (شركة إعلام ضخمة أمريكية متعددة الجنسيات) إن رئيسها التنفيذي “بوب باكيش” لن يحضر المؤتمر، كما أعلنت مجموعة “هاربور غروب”، وهي شركة في واشنطن تقدم خدمات استشارية للسعودية منذ أبريل/نيسان 2017، إنهاء عقد مع المملكة حجمه 80 ألف دولار في الشهر.

وفي غضون ذلك، قال الرئيس التنفيذي لمجموعة “بلاكستون”، “ستيفن شوارزمان” إنه لن يشارك في المؤتمر ذاته. و”بلاكستون” هي شركة أمريكية متعددة الجنسيات للمحاصصة خاصة والصيرفة الاستثمارية وادارة بديلة للأصول والخدمات المالية. كما استبعد “سكوت دونيلي”، الرئيس التنفيذي لشركة “تكسترون” الأمريكية للأسلحة، إبرام صفقات عديدة مع السعودية في المستقبل القريب.

وفى 16 أكتوبر/تشرين الأول، وبالرغم من شكر “بومبيو” للملك “سلمان” على التزامه بإجراء تحقيق شامل وشفاف عن اختفاء “خاشقجي” على حد قوله، شهد الكونغرس حالة من الغضب.

واتهم العضو البارز عن الحزب الجمهوري “ليندسي غراهام” ولي العهد السعودي بالضلوع في مقتل “خاشقجي”.

ووصف النائب المقرب من “ترامب”، “بن سلمان” بالكرة التي تحطم كل ما يعترض طريقها وهو ما يهدد العلاقات السعودية الأمريكية.

وفى 20 أكتوبر/تشرين الأول، شكك أعضاء بالكونغرس الأمريكي في رواية النائب العام السعودي بشأن مقتل “خاشقجي” خلال شجار مع أفراد قابلهم أثناء تواجده بالقنصلية السعودية في إسطنبول.

وعلق “غراهام” على الاعتراف السعودي السابق: “القول بأنني متشكك في الرواية السعودية الجديدة سيكون من قبيل تبسيط الأمور”.

من جهته، قال السيناتور الديمقراطي “ريتشارد بلومنتال” إن التفسير السعودي “يصعب تصديقه”، ودعا إلى تحقيق دولي في ملابسات مقتل “خاشقجي”.

واتهم السيناتور الجمهوري رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس “بوب كوركر”، في 21 أكتوبر/تشرين الأول، “بن سلمان” بالضلوع في قتل “خاشقجي”.

وقال إنه لا يصدق التفسير الذي قدمته السعودية حول مقتل “خاشقجي”، ويعتقد أن لا أحد يثق به؛ لأن التقارير الاستخباراتية التي أطلع عليها تثبت أن ولي العهد يقف وراء عملية قتل “خاشقجي”.

وفى 1 نوفمبر/تشرين الثاني، طالب أعضاء جمهوريون وديمقراطيون بمجلس الشيوخ الأمريكي “ترامب” بتعليق المحادثات المتعلقة بالطاقة النووية المدنية مع السعودية بسبب قضية “خاشقحي”.

تداعيات ونتائج

ونتيجة لوقوعها تحت ضغوط قوية، ألغت السفارة السعودية بواشنطن، في 15 أكتوبر/تشرين الأول، حفل استقبال تقيمه سنويا بمناسبة اليوم الوطني السعودي دون تفسير سبب الإلغاء.

كما أسفرت الضغوط الأمريكية في الداخل عن مغادرة سفير السعودية في الولايات المتحدة “خالد بن سلمان” وعودته إلى بلاده مرة أخرى.

وفي محاولة لرفع الضغوط عن الإدارة الأمريكية، قال “ترامب” في 20 أكتوبر/تشرين الأول إنه ليس راضيا عن التفسير الذي قدمته السعودية للملابسات المحيطة بمقتل “خاشقجي”، لكنه عقب أن ولي العهد السعودي ربما لم يكن على علم بمقتل الصحفي.

وفي السياق ذاته، صرح وزير الخارجية الأمريكي، في 23 أكتوبر/تشرين الأول، إنه سيلغي تأشيرات الدخول لمن تثبت مسؤوليتهم عن وفاة “خاشقجي”.

وأضاف أنه سيعمل مع وزارة الخزانة لبحث إمكان تطبيق قانون “ماغنتسكي” للمساءلة العالمية على هؤلاء الأفراد.

وبالتزامن مع تلك الضغوط، وتحديدا في 31 أكتوبر/تشرين الأول، عاد الأمير “أحمد بن عبدالعزيز” إلى الرياض من لندن بطلب من العاهل السعودي في محاولة لحل أزمة “خاشقجي”.

وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني، أعلنت وزارة الخزانة أنها ستفرض عقوبات اقتصادية على 17 سعوديا لدورهم في مقتل “خاشقجي”.

مخاوف ومناورات

من جهتها، واصلت الإدارة الأمريكية في هذه الأثناء إصدار البيانات بأنها تتواصل مع السعودية للحصول على معلومات حول القضية، وشملت ذلك اتصال “بومبيو ” بالملك “سلمان”، واتصال مستشار الأمن القومي الأمريكي “جون بولتون” بولي العهد.  

ومع تزايد التقارير التركية والتسريبات عن مقتل “خاشقجي”، وبالتزامن مع وجود مقاومة كبيرة في الكونغرس لحرب اليمن وبيع واشنطن أسلحة للرياض، عبرت شركات أسلحة أمريكية في 12 أكتوبر/تشرين الثاني عن قلقها من أن غضب المشرعين من مقتل “خاشقجي” سيؤدي لوقف صفقات سلاح جديدة مع السعودية.

والتقط “ترامب” هذه النقطة ليخرج بدوره ويعبر عن قلقه أيضا من أن يؤدي وقف مبيعات السلاح الأمريكي للسعودية لأن تحول الرياض طلباتها لشراء الأسلحة إلى موسكو وبكين.

 وفى وقت لاحق أخذ خطوة للأمام، وقال إن أمريكا “ستعاقب نفسها” إذا أوقفت مبيعات السلاح للسعودية بسبب “خاشقجي” حتى إذا ثبت أنه قُتل داخل القنصلية السعودية في إسطنبول.

وفي 13 أكتوبر/تشرين الأول، وردا على سؤال بشأن صادرات الأسلحة للرياض قال “ترامب” إنه لا يريد أن يتضرر سوق الوظائف في بلاده حال وقف بيع الأسلحة للسعودية، مشيرا إلى أن هناك وسائل أخرى أمام واشنطن لمعاقبة السعودية إذا ثبت عليها قتل “خاشقجي”.

كلفة سياسية

ويمكن القول إن الاستراتيجية التي تبناها الرئيس “ترامب” في حماية ولي العهد السعودي نجحت إلى حد كبير إلى عودة الأخير للساحة العالمية وقللت خسائره، وربما أكثر مثال يوضح ذلك هو الصورة التي جمعتهما في قمة العشرين التي أقيمت في مدينة لوساكا اليابانية في يونيو/حزيران 2019. كما نجحت أيضا بالحفاظ على مصالح أمريكا مع المملكة.

لكن بالرغم من ذلك قد تكون أضرت هذه الاستراتيجية بـ”ترامب” ذاته عندما تأتي الانتخابات الأمريكية 2020، حال استغلال الديمقراطيين انتخابيا العلاقة الوثيقة التي تربط “بن سلمان” و”ترامب”.

وفي الأيام الأخيرة الماضية، كشفت تقارير إعلامية أن البيت الأبيض قيد اتصالات “ترامب” مع “بن سلمان”.

وكشفت أن مسؤولين لديهم صلاحيات للاطلاع على نصوص المكالمات لم يحصلوا على نص مكالمة جمعت “ترامب” و”بن سلمان”.

وجاءت تلك المكالمة في وقت كان البيت الأبيض يواجه فيه عاصفة مقتل “خاشقجي”.

وأكدت التقارير، نقلا عن عدة مصادر مطلعة، أن مكالمات “ترامب” مع الملك “سلمان” ونجله ولي العهد، فُرضت عليها سريّة كبيرة، ولم يتم إعداد تفريغها كتابيا.

وأوضحت أنه يتم تقليديا توجيه مسؤولين كبار بالاستماع للمكالمات، ومن ثم توزيع نصوصها عليهم، لكن مكالمات “ترامب” مع قادة المملكة والرئيس الروسي اقتصرت على استماع “بومبيو ” ومستشار الأمن القومي السابق “جون بولتون”.

وتزامن ذلك مع إعلان رئيسة مجلس النواب الأمريكي “نانسي بيلوسي”، الثلاثاء الماضي، بدء إجراءات عزل “ترامب” من منصبه رسميًا، على خلفية اتصاله بنظيره الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” من أجل حث الأخير على فتح تحقيق بشأن عائلة منافسه الديمقراطي في رئاسيات 2020 “جو بايدن”.