منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، كانت إسرائيل تسعى لتحقيق أهداف استراتيجية من خلال فرض سيطرة عسكرية على القطاع ومحاصرته بالكامل. أحد أبرز هذه الأهداف كان إقامة محور نتساريم، وهو ممر عسكري استراتيجي يقطع أوصال قطاع غزة، ويمتد من مستوطنة نتساريم السابقة وسط القطاع وصولًا إلى البحر الأبيض المتوسط. الهدف من هذا المحور، وفقًا لرؤية إسرائيل، كان فصل شمال القطاع عن جنوبه، ومنع المقاومة الفلسطينية من التحرك بحرية بين المنطقتين، مما يسهم في تقويض قدراتها العسكرية واللوجستية.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان الأكثر حماسًا لهذا المخطط، حيث صرّح مرارًا بأن محور نتساريم هو “خط أحمر” لا يمكن التراجع عنه، مشيرًا إلى أن إسرائيل ستبقى مسيطرة على هذا الممر الاستراتيجي، حتى بعد انتهاء العمليات العسكرية. بل وذهب أبعد من ذلك ليؤكد أن هذا المحور سيكون جزءًا من “الواقع الجديد” الذي تفرضه إسرائيل في غزة، في إشارة واضحة إلى نية الاحتلال فرض تغييرات جغرافية وسياسية دائمة على القطاع، بما يتجاوز مجرد العمليات العسكرية المؤقتة.
لكنّ تصريحات نتنياهو المتعجرفة لم تكن مجرد محاولة لإبراز قوة إسرائيل، بل كانت انعكاسًا لعقلية الاحتلال التي تسعى إلى فرض معادلات جديدة على الأرض، دون النظر إلى العواقب السياسية والعسكرية. هذه الغطرسة الإسرائيلية سرعان ما اصطدمت بالواقع الميداني، حيث تحول محور نتساريم إلى نقطة استنزاف عسكري غير مسبوق لجيش الاحتلال، وسط عمليات نوعية للمقاومة الفلسطينية التي كبّدت القوات الإسرائيلية خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
نتساريم يتحول إلى كابوس ميداني.. المقاومة تفرض معادلتها
مع تقدم العمليات العسكرية، أصبحت السيطرة على محور نتساريم عبئًا ثقيلًا على جيش الاحتلال. فالمقاومة الفلسطينية، بقيادة كتائب القسام وسرايا القدس، نفذت سلسلة من الكمائن النوعية التي أوقعت خسائر جسيمة في صفوف القوات الإسرائيلية.
كما اعتمدت المقاومة تكتيكات حرب المدن، عبر تفخيخ المناطق المحيطة بالمحور، وشن هجمات مباغتة أجبرت القوات الإسرائيلية على التراجع في عدة نقاط، رغم التفوق الجوي والدعم اللوجستي الكبير الذي كانت تتلقاه.
إحدى أبرز العمليات التي شكلت نقطة تحول في الصراع على محور نتساريم كانت استهداف قافلة عسكرية إسرائيلية بعبوات ناسفة متطورة، ما أدى إلى تدمير عدد من المركبات المدرعة وقتل وإصابة العشرات من الجنود.
هذه الضربات دفعت القيادة العسكرية الإسرائيلية إلى إعادة تقييم جدوى استمرار التمسك بهذا المحور، خاصة في ظل عجز الجيش عن تأمينه بالكامل، واستمرار تدفق الدعم اللوجستي للمقاومة من جنوب القطاع إلى شماله، رغم كل القيود التي حاولت إسرائيل فرضها.
في المقابل، كان القلق الإسرائيلي يتزايد مع تصاعد الضغوط الدولية لوقف إطلاق النار، حيث بدأ الحديث يدور حول إمكانية الانسحاب من المحور كجزء من صفقة لإنهاء الحرب. ومع كل يوم يمر، كان الوضع العسكري الإسرائيلي يزداد تعقيدًا، فيما بدأ نتنياهو يواجه انتقادات متصاعدة من داخل حكومته، خاصة من قادة الأجهزة الأمنية الذين رأوا أن التمسك بمحور نتساريم لم يعد مجديًا، بل بات يشكل خطرًا على القوات الإسرائيلية نفسها.
انسحاب إسرائيلي مذل.. نتنياهو يتجرع الهزيمة
مع دخول المفاوضات الدولية لوقف إطلاق النار مراحلها الأخيرة، وجدت إسرائيل نفسها مضطرة إلى تقديم تنازلات قاسية، لم يكن من الممكن تصورها في بداية الحرب. وفي مقدمة هذه التنازلات، جاء قرار الانسحاب من محور نتساريم، الذي كان حتى وقت قريب “خطًا أحمر” وفقًا لنتنياهو.
هذا القرار شكّل ضربة قاسية لرئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي طالما تباهى بأن السيطرة على نتساريم هي جزء من “الإنجازات الاستراتيجية” للحرب. لكن الضغوط الأمريكية والقطرية والمصرية، إلى جانب الخسائر الفادحة التي تكبدها الجيش الإسرائيلي، جعلت من المستحيل التمسك بهذا الممر العسكري.
في نهاية المطاف، ومع إعلان صفقة وقف إطلاق النار، اضطرت القوات الإسرائيلية إلى الانسحاب بشكل مذل من محور نتساريم، تاركة خلفها آليات مدمرة وخطوط دفاعية منهارة. المشهد كان صادمًا للإسرائيليين أنفسهم، حيث تحولت تصريحات نتنياهو السابقة عن “السيطرة الدائمة” إلى مجرد سراب، وسط حالة من الغضب في الأوساط السياسية والعسكرية الإسرائيلية.
وسائل الإعلام العبرية لم تتردد في وصف الانسحاب من نتساريم بأنه “هزيمة مدوية”، مشيرة إلى أن إسرائيل لم تحقق أيًا من أهدافها الاستراتيجية من هذا المحور، بل إن المقاومة خرجت أكثر قوة من أي وقت مضى، بعدما فرضت معادلتها على الأرض وأجبرت الاحتلال على التراجع.
أما نتنياهو، فقد وجد نفسه في موقف لا يُحسد عليه، حيث تعرض لانتقادات عنيفة من داخل حكومته، ومن المعارضة التي اعتبرت أن مغامرته العسكرية انتهت بكارثة استراتيجية لإسرائيل.
وحتى داخل المؤسسة العسكرية، بدأ العديد من الضباط يتحدثون عن فشل التخطيط العسكري، وعدم القدرة على استيعاب قدرات المقاومة الفلسطينية، التي أثبتت أنها قادرة على الصمود وإفشال مخططات الاحتلال، مهما بلغت تعقيداتها.
في المحصلة، كان محور نتساريم شاهدًا على واحدة من أكثر لحظات الفشل الإسرائيلي إحراجًا في هذه الحرب. فقد بدأ كخط أحمر غير قابل للتفاوض، لكنه انتهى كمسمار جديد في نعش طموحات نتنياهو العسكرية، مؤكدًا أن غزة لا تزال عصية على الاحتلال، مهما حاول فرض معادلاته بالقوة.
اضف تعليقا