تسبب الانفجار الذي وقع في بيروت في أغسطس/آب الماضي، والذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص وجرح الآلاف، في صدمة كبيرة، ليس فقط بالنسبة للبنانيين، ولكن للعالم أجمع، خاصة مع انتشار صور الدمار والخراب الذي حل بالميناء والمنازل والمباني والسفارات. لم يمر وقت طويل حتى أظهرت التقارير حول الحادث تورط الحكومة اللبنانية فيه بسبب سوء إدارتها لمخزون هائل من نترات الأمونيوم المتبقي في وسط ميناء بيروت، مع ترجيح وجود علاقات تجارية مع نظام بشار الأسد تتعلق بهذا المخزون.
في أعقاب هذا الانفجار، سارعت فرنسا لإنقاذ بيروت وأبدت تضامنها مع الضحايا واستعدادها الكامل لإصلاح ما أفسدته الحكومة المحلية، في لفتة أكد الخبراء والمحللون أنها ذات دوافع استراتيجية أكثر منها إنسانية، تتعلق بمصالح فرنسا من الناحية الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية. فما هي النوايا الحقيقة وراء اهتمام فرنسا بلبنان؟
منذ أواخر 2019، ولبنان يعاني من احتجاجات شعبية قوية على الفساد الحكومي متجذر منذ عقود، والذي تسبب في إفقار قطاع كبير من الشعب اللبناني بعد انهيار الاقتصاد الذي أدى تضخم الليرة اللبنانية، فضلاً على سوء إدارة جائحة فيروس كورونا، إذ لم تتخذ الدولة أي إجراءات سوى فرض إغلاق قاسي ألحق أضراراً كبيرة باللبنانيين أصحاب الدخول القليلة، لهذا ليس من المستغرب أن يصبح انفجار بيروت “القشة التي قصمت ظهر البعير”، إذ أكدت للشعب، المحبط بالفعل، أن حكومته غير مؤهلة لإدارة البلاد.
في مسار مواز، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من بين أوائل المستجيبين الدوليين الذين ظهروا وسط الفوضى والحطام، مقدمًا دعمًا واضحاً للشعب اللبناني، مستغلاً حالة النفور الشعبي من الحكومة التي طلب الشعب اللبناني من ماكرون عدم تقديم أي مساعدات مالية مباشرة لها لعدم ثقته في كيفية إنفاقها، وفي المقابل، عرض ماكرون التضامن الفرنسي الكامل مؤكداً التزام بلاده بدعم الشعب اللبناني في محنته.
البعض اعتبر تصرف ماكرون “اصطياد في الماء العكر”، لم يقتنعوا أن هذه المساعدات الضخمة والزيارات الميدانية مجرد بادرة إنسانية ودبلوماسية، مرجحين أنها “خدعة علاقات عامة” وخطوة استراتيجية ذات تداعيات شبه استعمارية، يعيد بها ماكرون أمجاد الاستعمار الفرنسي القديم، خاصة مع محاولاته الواضحة في التأكيد على أن الحكومة اللبنانية لا تصلح لشيء وأن الحل في يد فرنسا.
كان لبنان أبرز المستعمرات الفرنسية بعد الاستيلاء عليها بموجب اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 مع المملكة المتحدة، وهي الاتفاقية التي أرست الحدود الحديثة لدول الشرق الأوسط التي نعرفها الآن.
طوال فترة الاستعمار، لعبت فرنسا على محور التقسيم الديني والطائفي، إذ حاولت استقطاب الموارنة اللبنانيين (مسيحيين لبنانيين يتبعون الكنسية المارونية)، إذ شرعوا في مساعدة إخوانهم المسيحيين الذين أقنعوهم أنهم غارقون في “بحر من ظلم المسلمين”.
وعلى الرغم من الامتيازات الاستعمارية للاستحواذ على لبنان (مثل الوصول إلى ميناء بيروت) ومن أجل الاستفادة من الروابط التاريخية مع الموارنة، استمرت فرنسا في مساعدتها لتمكين وحماية “حلفائها” (أي المسيحيين اللبنانيين) من أي عداء قد يتعرضون له من المسلمين والدروز، وكان هذا من بين أسباب تدخلها، مشجعة على تطوير النظام السياسي الطائفي الذي لا يزال قائماً في لبنان، هذا النظام -الميثاق الوطني – الذي أرسى أسس تقاسم السلطة الطائفية في لبنان، وأوجد الدولة اللبنانية المذهبية التي قسّمت وعززت السلطة بين الطوائف الدينية، بقصد حفظ السلام والاستقرار.
بالنسبة لماكرون، فإن ضمان وجود فرنسي قوي في العالم – لا سيما في العالم الفرنكفوني الذي يشمل لبنان – أمر حيوي لرؤيته للسياسة الخارجية الفرنسية، بصفتها مستعمرة سابقة وجزءً من الفرنكوفونية (مجموعة الدول الناطقة بالفرنسية التي تستجيب للكومنولث البريطاني، المرتبطة بإرثها الاستعماري)، لهذا فإن زيارة ماكرون الفورية لشوارع بيروت حققت بالتالي أجندة استراتيجية رئيسية: إظهار أن فرنسا يمكن الاعتماد عليها في انتشال البلدان من فوضى عارمة.
لم تحاول فرنسا هذه المرة استقطاب المسيحيين فقط، بل هدف التكتيك الذي اتبعته إلى كسب ثقة بقية الأديان والطوائف، فطالما أن فرنسا هي المنقذ للمسيحيين اللبنانيين، فيمكنها أن تكون منقذة لكل اللبنانيين – بما في ذلك السنة والشيعة، خاصة وأنها وعدت بالقتال من أجلهم لانتزاع حقوقهم التي فشلت الحكومة المحلية في الحفاظ عليها.
ومع ذلك، فإن صورة “المنقذ” التي كان ماكرون يهدف للترويج إليها قد تضاءلت بسبب أفعاله، ففي اللقاءات السريعة التي عقدها مع القيادة اللبنانية خلال زيارته، كان نهجه متسلطًا ومتعاليًا لأقصى الحدود، حيث طالب الحكومة اللبنانية بالالتزام بمراجعة هيكلها الحالي بما يتماشى مع منظمة تكون “مسؤولة” وملتزمة تجاه الشعب اللبناني، وعلى الرغم من يقين الشعب اللبناني بفشل حكومته واستبدادها، فإن لهجة ماكرون تجاه الحكومة اللبنانية في الأسابيع التي تلت ذلك لم تكن من دولة لدولة، بل من منطلق قوة استعمارية تتحدث مع مستعمرتها السابقة.
ومع ذلك، لم يبل ماكرون بلاء حسناً في تحقيق أهدافه من التدخل في الشؤون اللبنانية، فحتى الآن لم يتم تحقيق نتائج واضحة لمحاولاته الإصلاحية، لتصاب جهوده بخيبة أمل واضحة خاصة بعد استقالة رئيس الوزراء المؤقت مصطفى أديب (الذي رشحه ماكرون بنفسه)، بالنظر للواقع اللبناني المدمر، كان من السذاجة والغباء أن يعتقد ماكرون أن فرنسا قادرة على تغيير لبنان بالسرعة نفسها التي فعلت بها بعد الانتداب الفرنسي.
يُظهر أداء ماكرون أن النية لم تكن أبدًا تعزيز أوضاع حكومة أكثر مسؤولية، ولم تكن ذات دوافع إنسانية، بل كان الهدف الحقيقي وراء ذلك هو اهتمام ماكرون بتعزيز نفوذ بلاده داخل لبنان بصورة أكبر من القوى المختلفة ذات النفوذ في لبنان، كالسعودية وحزب الله المدعوم من إيران.
في نهاية المطاف، كانت زيارة ماكرون إلى لبنان في أعقاب انفجار بيروت ذات ميول استعمارية زائفة أكثر من أي مشاركة إنسانية كبيرة ومستدامة للسكان المنهكين، لقد ظهر ماكرون على أنه “منقذ أبيض” و “كلب حراسة استعماري سابق” أكثر من كونه حليفًا للشعب اللبناني، مستغلًا الكارثة من أجل ترسيخ قواعده.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اقرأ أيضًا:غايات انتخابية.. لهذه الأسباب هاجم ماكرون الإسلام ثم عاد وخفف لهجته لاحقا
اضف تعليقا