منذ منتصف القرن العشرين وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت المملكة العربية السعودية هي الحصن الرئيسي للمرجعية العربية. ويعود ذلك إلى حجم المملكة، وموقعها الجغرافي في قلب شبه الجزيرة العربية، ووصايتها على المقدسات الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وعدد سكانها، وكذلك بسبب ثروتها النفطية. 

ارتبط هذا الدور ارتباطًا قويًا وثيقًا بالعلاقة الاستراتيجية التي أقامتها المملكة العربية مع الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كانت الرياض تلعب دور الحليف الرئيسي لواشنطن في الشرق الأوسط، وكان ذلك خلال حقبة الحرب الباردة، في مواجهة الحركة القومية العربية والتي كان يدعمها الاتحاد السوفيتي. وسهل هذا الدور السعودي الاستقطاب السياسي الحاد الذي اتسمت به تلك الفترة الزمنية، والذي جعل واشنطن تتبنى نهجًا غاية في المحافظة، وذلك بما يتماشى مع الطبيعة المحافظة للمملكة منذ إنشائها. 

وقد شهدت المنطقة العربية في السنوات الأخيرة تحولًا كبيراً غاية في الخطورة، والذي لم يلق بعد الاهتمام والتحليل اللذين يستحقهما. وهذا مبني على صعود إمارة أبو ظبي وولي عهدها محمد بن زايد في قيادة المرجعية العربية. فيكفي أن ننظر إلى خطورة الدور الذي تتبناه أبو ظبي في مختلف المناطق الإقليمية الساخنة وغير مستقرة مثل اليمن والسودان وليبيا وتونس وسوريا،  وفلسطين المحتلة، وكذلك احتضان أبو ظبي لمنشق حركة فتح محمد دحلان. كما يجب أن نضع في عين الاعتبار وجود العلاقات الإستراتيجية التي أقامتها الإمارات العربية المتحدة، وعاصمتها أبو ظبي، مع إسرائيل، والتي أصبحت الآن على مرأى ومسمع من الجميع. 

لقد أقامت أبو ظبي ومصر “عبد الفتاح السيسي” وروسيا بما سمي بـ “التحالف الرجعي الثلاثي”، وقد كان دور أبو ظبي الريادي في هذا التحالف الأكثر وضوحًا. وتدعم المملكة العربية السعودية في بعض الأحيان أبو ظبي دون أن تشارك معها دائمًا، كما في ليبيا على سبيل المثال. ويتجلى هذا الدعم أيضًا في بقاء الرياض خارج مجموعة التطبيع، أو بالأحرى بقاؤها خارج التحالف المفتوح مع إسرائيل والذي تشارك فيه أبو ظبي والقاهرة. كما أن المواطنين السعوديين أيضًا خارج أولئك الذين يسعون لتطبيع العلاقات مع نظام المجرم بشار الأسد في سوريا، وهذا التطبيع يعتبر هو الحلقة الأخيرة من هجوم أبو ظبي الإقليمي الساعي للهيمنة والسيطرة والنفوذ. 

التساؤل هنا هو ما هي الظروف الدولية والإقليمية التي تكمن وراء هذا التحول الخطير والمهم؟ وماذا عن طموح بن زايد -الحاكم الفعلي للإمارات- وانغماسه في قيادة الدول العربية؟ 

ولكن الجانب الأكثر أهمية بالتأكيد هو نهاية حقبة الحرب الباردة والتغيرات المستجدة في موقف الولايات المتحدة، خاصةً بعد فشلها في زرع سيطرتها على الشرق الأوسط من خلال الحرب التي شنتها على العراق عام ١٩٩١. ولكن أعقبتها الولايات المتحدة بغزو العراق واحتلاله عام ٢٠٠٣، والذي  انتهى بالفشل وانسحاب القوات الأمريكية من أرض العراق، وترك حكومة بغداد مفتوحة أمام النفوذ الإيراني. يضاف إلى هذا ثورات الربيع العربي التي اندلعت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قبل عشر سنوات، مما تسببت في انتشار حالة من التوتر والذعر بين الأنظمة والقوى المسيطرة في المنطقة. 

ولقد ذعرت هذه القوى عندما فضلت واشنطن في عهد الرئيس باراك أوباما مواكبة ثورات الربيع العربي، وذلك من أجل الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة وبما يتماشى مع مطالبها الديموقراطية الأيديولوجية. ولهذا كان اعتماد الولايات المتحدة على وساطة قطر.  

وكانت جميع أطراف المحور العربي قد استاءت من ذلك، بخلاف المملكة العربية السعودية التي واصلت مسيرتها مع واشنطن، والذي يكمن وراءها خوفها الأكبر من إيران. في المقابل ليس لدى أبو ظبي -كما في المملكة العربية- انشغالًا بإيران، لذلك أصبحت الانتفاضات الشعبية الإقليمية هاجس ابن زايد الرئيسي. 

كما أن أبو ظبي أيضًا أقل اعتمادًا على الولايات المتحدة من السعوديين. ومن هنا، بدأت الإمارة في نسج علاقات وثيقة مع موسكو، والتي تحتل الآن موقع القوة العظمى التي تدافع عن الأنظمة العربية القديمة. وقد أظهرت روسيا ذلك أولًا من خلال تدخلها لإنقاذ بشار الأسد في دمشق. 

حتى أن بن زايد وأبو ظبي بدآ في التدخل في شؤون السياسة الأمريكية، كما فعل بنيامين نتنياهو، فلقد تجاوز رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ما فعلته أي حكومة إسرائيلية قبله. 

وبالتعاون مع روسيا، قامت أبو ظبي بدعم الحملة الرئاسية لـ دونالد ترامب عام ٢٠١٦، وبالتالي أذن لها ترامب بتوجيه سياسته الإقليمية بعد فوزه. ودفعه ذلك إلى حث الرياض على مقاطعة قطر، والتي بدأت بعد أيام من زيارة ترامب للمملكة العربية السعودية، وكانت هذه أول زيارة خارجية له بعد توليه منصبه الرئاسي. ولكن مع تولي جو بايدن الآن رئاسة الولايات المتحدة، تعززت العلاقة بين أبو ظبي وموسكو من خلال تدخلهما المشترك مع القاهرة في الأراضي الليبية. 

واليوم نرى تحول التحالف الثلاثي -بين أبو ظبي ومصر وسوريا- إلى تحالف رباعي مع انضمام إسرائيل لهم. وقد أتاح ذلك لأبو ظبي فرصة أن تقيم علاقة مفتوحة مع دولة الاحتلال. ومن المرجح أن تشهد سوريا في الأشهر المقبلة تداعيات هذا التحول، لا سيما فيما يتعلق بدور إيران وتركيا على الأراضي السورية.