إجبار متهمين على الاعترافات أمام الكاميرا، إطلاق اتهامات جاهزة بالإرهاب، وتجنيد إعلام الدولة لتضخيم مشهد أمني مثير؛ هكذا جاءت قصة “خلية تصنيع الصواريخ” في أبريل 2025، لتتحول إلى مادة سياسية مصممة بعناية لتوجيه الرأي العام بعيدًا عن ملفات أكثر إحراجًا. عشرات الاتهامات وُزعت على اثني عشر شابًا وأربعة آخرين، تحت لائحة الإرهاب وتصنيع الأسلحة، بمزاعم قالت السلطات إنها تعود إلى عام 2021، فيما لم تُعرض حتى اللحظة أي أدلة ملموسة يمكن أن تصمد أمام اختبار العدالة المستقلة. السردية الرسمية لم تترك مجالًا للشك في أن الهدف هو كسر كل صوت يفكر بالخروج عن خط التطبيع الرسمي والانبطاح العلني أمام الاحتلال الإسرائيلي، بينما تصر الدولة على شيطنة كل من يطالب بموقف وطني وأخلاقي تجاه القضية الفلسطينية.

خيوط القصة كما رُوّجت لها تبدأ بتفكيك مجموعة من الشباب قيل إنهم خططوا لتصنيع أسلحة ومتفجرات، وتخزين صواريخ، وبناء طائرات مسيرة، وكل ذلك بتمويل غير معروف، وتنسيق داخلي محكم، وفق الرواية الرسمية. لكن غياب أي دليل ملموس، واعتماد النيابة على اعترافات مسجلة تحت الضغط، وتوقيت الكشف عن القضية بعد سنوات من مراقبتهم، ثم بث هذه الاعترافات دفعة واحدة أمام الكاميرات، لا يشير إلى عملية أمنية حقيقية، بقدر ما يكشف عن سيناريو مدروس يهدف إلى شيطنة كل من يتجرأ على رفع صوته ضد الاحتلال أو يطالب بموقف شريف من الدولة تجاه فلسطين.

ومع عودة فضائح الملك وزوجته وعائلته للظهور على الساحة مرة أخرى، خاصة في ظل تبادل زيارات مكثفة مع الجانب الأمريكي، وتنامي الجدل حول مصادر ثروته، بات واضحًا أن النظام في عمّان بحاجة إلى مادة إعلامية جديدة تملأ الشاشات وتحوّل النقاش من “من ينهب الأردن؟” إلى “من يهدد أمنها؟”. فلم تكن القضية الأمنية سوى قناع مؤقت يخفي خلفه ملفات أكثر خطورة، وعلى رأسها ملف ثروة الملك عبد الله الثاني، وشبكة العقارات الفاخرة التي بناها سرًا خلال السنوات الماضية في بريطانيا وأمريكا، بتمويل مجهول المصدر، رغم أن بلاده تتلقى مليارات الدولارات من المساعدات الخارجية سنويًا.

وثائق “باندورا” التي تسربت في أكتوبر 2021 كشفت أن الملك أنفق أكثر من 100 مليون دولار على شراء 15 عقارًا في لندن وماليبـو، مستخدمًا شبكة من شركات الأوفشور لإخفاء ملكيته. ثلاثة منازل على شاطئ المحيط، وشقق فاخرة في قلب لندن، كلها سجلت باسم شركات غامضة، في وقت كان فيه الأردن يغرق في الديون، ويُطلب من مواطنيه الصبر على إجراءات التقشف ورفع الدعم وتجميد التوظيف. تلك الوثائق لم تكن تسريبات عادية، بل نتاج تحقيق شارك فيه أكثر من 600 صحفي عالمي، وأكد أن سلوك الملك المالي يتعارض تمامًا مع موقعه كحاكم لدولة تعاني من أزمة اقتصادية مزمنة.

بعد أقل من عام على تلك الفضيحة، كشفت تسريبات “كريدي سويس” في فبراير 2022 عن امتلاك الملك عبد الله لستة حسابات سرية في ثاني أكبر بنوك سويسرا، بلغ أحدها في 2015 أكثر من 224 مليون دولار. الملكة رانيا نفسها امتلكت حسابًا تجاوزت قيمته 40 مليون دولار عام 2013. مصدر هذه الأموال لم يكن يومًا واضحًا، والردود الرسمية لم تخرج عن العبارات الجوفاء مثل “أموال شخصية” و”مكتسبة بطرق مشروعة”، رغم أن الأرقام تفوق أضعاف راتب أي مسؤول حكومي في أي دولة في العالم، وتطرح سؤالًا صارخًا عن العلاقة بين المساعدات الدولية التي تغرق بها الخزينة الأردنية، وبين نمط الحياة الباذخ الذي تعيشه العائلة الملكية.

فضائح الثروة لم تقف عند القصور والحسابات البنكية، بل امتدت إلى ملف أخطر: بيع أصول الدولة كما لو كانت ميراثًا شخصيًا. ميناء العقبة، المنفذ البحري الوحيد للأردن، تم بيعه في 2008 لشركة “المعبر” الإماراتية بـ350 مليون دينار فقط، رغم أن الحكومة كانت قد أنفقت قبلها 250 مليونًا على إعادة تأهيله. الصفقة تضمنت 3200 دونم من الأراضي الساحلية، وتعهدًا رسميًا من الدولة بتسهيل كل العقبات أمام المستثمر الإماراتي، حتى لو كلّف ذلك خزينة الدولة نصف مليار دولار إضافية. ما سُمي استثمارًا استراتيجيًا لم يكن سوى عملية تسليم مجانية للثروات الوطنية، في لحظة من الخضوع التام للإملاءات الخليجية، وتحديدًا من أبو ظبي، التي ساعدت بشكل مباشر في بقاء النظام على قيد الحياة سياسيًا.

كل هذه الممارسات جرت بينما الشعب الأردني يئن تحت وطأة الجوع والبطالة. التقرير السنوي الصادر عن دائرة الإحصاءات العامة لعام 2024 كشف عن معدل بطالة بلغ 21.4%، بين الذكور وصل إلى 18.2%، وبين الإناث إلى 32.9%. حملة الشهادات الجامعية شكلوا النسبة الأعلى من العاطلين عن العمل بنسبة 25.8%. في محافظات مثل المفرق ومعان، قفز المعدل إلى أكثر من 23%. بلد مليء بالكفاءات والمخرجات الأكاديمية، لكن لا توجد فرص ولا خطط تنموية حقيقية، لأن الدولة منشغلة بتصدير أزماتها وبيع ما تبقى من مقدراتها، بينما يعيش القصر في عزلة عن الواقع، وكأنه كيان منفصل تمامًا عن الشعب.

داخل هذه المعادلة المشوّهة، تطفو معلومات خطيرة عن سلوك الملك الشخصي، الذي لم يعد مجرد شأن خاص. معارضون ونشطاء كشفوا أن الملك عبد الله مدمن على لعب القمار، ويقضي أوقاتًا طويلة في كازينوهات مونت كارلو، حيث تُنفق الملايين على الطاولات، وتُرهن أحيانًا مصالح وطنية لحساب نزوات شخصية. الحديث عن القمار لم يعد إشاعة، بل جزءًا من سردية تتكرس مع كل تسريب جديد، وكل مشهد يظهر فيه الحاكم بعيدًا عن شعبه، غارقًا في حياة موازية بلا محاسبة أو ضوابط.

الملكة رانيا لم تكن بعيدة عن هذه الدائرة، إذ تورطت هي وأفراد من عائلتها في ملفات مالية وإدارية وصفت بأنها نموذج لنهب الدولة عبر مناصب موازية وتحكم غير مباشر في مفاصل حساسة من الاقتصاد الأردني، بدءًا من التعليم والصحة، وصولًا إلى ملف الاستثمار الخارجي والعقارات. صورة الملكة التي تحرص على الظهور كبطلة نسوية في المحافل الغربية، تنهار أمام شهادات الداخل التي تتحدث عن دورها الحقيقي في إدارة مشهد النهب والتزييف والبذخ المفرط باسم الحداثة.

حملة التخويف الأخيرة لا يمكن قراءتها إلا ضمن سياق أوسع من محاولات التغطية على هذا الفساد المتراكم. خلق تهديد أمني وهمي، تضخيم خطر داخلي، وشيطنة كل من يرفع صوته – حتى لو كانت المطالب وطنية وخطابها محصور في المطالبة بموقف منصف من الاحتلال – كلها أدوات يستخدمها النظام لترسيخ معادلة الخوف. المشهد لم يعد يحتمل التجميل، والمؤسسات التي يُفترض بها أن تحمي الشعب أصبحت أدوات قمعه، فيما تتحول وسائل الإعلام إلى واجهات لتسويق الأكاذيب.

الخلية الحقيقية التي تُشكل تهديدًا للأمن القومي ليست تلك التي اتهم بها هؤلاء الشباب، بل تلك التي تدير الدولة من القصر، وتنسج التحالفات من خلف الستار، وتبيع البلد قطعة قطعة دون أن يجرؤ أحد على المساءلة. أما أولئك الذين نُكّل بهم وسُحلت سمعتهم أمام الرأي العام، فجرمهم الوحيد أنهم رفضوا الخضوع لصمت مذل، واختاروا أن يرفعوا أصواتهم ضد الظلم والاحتلال، فدفعوا الثمن من أعمارهم وكرامتهم في دولة تُدار بالأوامر، وتُحصى فيها الأنفاس.