نشرت صحيفة نيويورك تايمز تحقيق استقصائي تحت عنوان «السيطرة على كرة القدم وتسليح أمراء الحرب»، استعرضَ خلاله مراسلا الصحيفة ديكلان وولش وتاريق بانجا واسع، كيف تحوّلت كرة القدم إلى غطاء إماراتي لتوسيع النفوذ الجيوسياسي، وكيف يقف أبناء زايد، خاصة الشيخ منصور بن زايد، خلف شبكة معقدة من التمويل والدعم لأمراء الحرب في السودان وليبيا واليمن. وكشف التحقيق العلاقة بين القوة الناعمة التي تمثلها الأندية الأوروبية، وعلى رأسها مانشستر سيتي، وبين الحروب القذرة التي تديرها أبو ظبي في إفريقيا والشرق الأوسط
إمبراطورية ناعمة تحت غطاء مانشستر سيتي
في نظر الغرب، يُعرف الشيخ منصور بن زايد بصفته مالك نادي مانشستر سيتي، الفريق الإنجليزي الذي تحوّل إلى أحد أنجح الأندية بفضل تدفق غير محدود من الأموال. لكن خلف الكواليس، تقول الصحيفة، يلعب منصور دورًا أكثر خطورة: “المنسق السري” الذي يتولّى ملف الحروب الخارجية ويُدير العلاقات مع أمراء الحرب بعيدًا عن الأضواء.
منذ شرائه للنادي عام 2008، استخدم الشيخ منصور كرة القدم كوسيلة لإعادة تشكيل صورة الإمارات عالميًا، خاصة بعد فضيحة رفض الولايات المتحدة صفقة موانئ إماراتية عام 2006، وأنفق أكثر من 3.5 مليار دولار لتأسيس شبكة أندية عالمية تشمل نيويورك وملبورن ومومباي، ونجح في تحقيق إنجازات رياضية ضخمة – لكن تلك الإنجازات، وفق التحقيق، كانت جزءًا من مشروع سياسي شامل.
السودان.. ساحة الدم التي لا تغيب عنها الإمارات
في فبراير/شباط 2023، أي قبل أسابيع من اندلاع الحرب الأهلية في السودان، استقبل الشيخ منصور في قصره الفاخر الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات الدعم السريع، وهو رجل وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، وجمع ثروة طائلة من تجارة الذهب غير المشروعة، ومتَّهَم بارتكاب فظائع واسعة النطاق.
كان الرجلان يعرفان بعضهما جيدًا، فالشيخ منصور كان قد استضاف اللواء محمد حمدان (حميدتي) قبل عامين خلال معرض للسلاح في الإمارات، حيث تجولا معًا بين الطائرات المسيّرة والصواريخ، وعندما انفجرت الحرب، وفّرت جمعيات خيرية تابعة للشيخ منصور مستشفى ميدانيًا في شرق تشاد، لكن التحقيق يكشف أن المستشفى كان واجهة لتهريب طائرات مسيّرة وأسلحة لقوات حميدتي.
تمكنت الاستخبارات الأميركية من التجسس على مكالمات مباشرة بين حميدتي وقيادات إماراتية، بينهم الشيخ منصور. وتشير مصادر رسمية في واشنطن والأمم المتحدة إلى أن الدعم الإماراتي غذّى المجازر وعمليات الاغتصاب الجماعي والقتل العشوائي، التي تُوصف بأنها جرائم إبادة جماعية، وقد أسفرت الحرب التي تُتهم الإمارات بالتورط فيها وتمويلها عن مقتل أكثر من 150 ألف شخص وتشريد أكثر من 12 مليونًا. وبحسب التحقيق، فإن الجنرال السوداني كان شريكًا مثاليًا للإمارات: خدمها في حرب اليمن، يبيع ذهب السودان في دبي، ويتبنى خطابًا معاديًا للإسلاميين.
ليبيا واليمن.. الخرائط تُرسم من أبو ظبي
في ليبيا، لعب الشيخ منصور دورًا محوريًا في دعم اللواء خليفة حفتر، الذي تصفه الصحيفة بأنه “الجنرال المفضل للإمارات”. دعمه بالسلاح والمال والمرتزقة، رغم حظر السلاح المفروض من الأمم المتحدة. بل وصل الأمر إلى ظهور أسلحة أميركية باعتها واشنطن للإمارات في أيدي ميليشيات حفتر.
أما في اليمن، فقد استغل النظام الإماراتي، بحسب التحقيق، حاجة التحالف إلى مقاتلين، فدفع بالرأس السوداني إلى ساحات القتال. قوات الدعم السريع شاركت فعليًا في الحرب تحت قيادة إماراتية. كما ساعدت الإمارات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في تغيير مجريات الحرب الأهلية في تيغراي من خلال تزويده بطائرات بدون طيار.
أبناء زايد.. توزيع الأدوار
يُقسم الحكم الحقيقي في الإمارات بين ثلاثة إخوة من أبناء “فاطمة”، الزوجة المفضلة للشيخ زايد مؤسس الدولة:
- الشيخ محمد بن زايد: رئيس الدولة وصانع القرار الأول، يقود السياسة الخارجية والحروب، ويُنظر إليه بوصفه العقل المدبّر.
- الشيخ طحنون بن زايد: يوصف بـ”شيخ الجواسيس”، مسؤول الأمن القومي، ويملك شبكة شركات استثمارية ضخمة لها امتدادات استخباراتية.
- الشيخ منصور بن زايد: الرجل الهادئ خلف الكواليس، يُدير الملفات القذرة – الحروب، المال، والغسيل الإعلامي – عبر كرة القدم والإعلام والاستثمارات الدولية.
قال أندرو بي. ميلر، الدبلوماسي الأميركي السابق عن الشيخ منصور بن زايد “إنه المنسق، المُعالج، الشخص الذي يُرسل إلى الأماكن غير المُبهرة والتي لا تُغطى إعلاميًا، لكنها في غاية الأهمية بالنسبة للإمارات. يبدو أن هذا هو مجاله المفضل.” وقد وصفه بهذا الشكل أكثر من ستة مسؤولين آخرين.
وبحسب التحقيق فإن الشيخ منصور هو من “يُرسل إلى المناطق غير اللامعة، لكنه أساسي في تنفيذ أجندة النظام”.
فساد عالمي ويخوت بتمويل منهوب
الجانب المالي لا يقلّ خطورة، إذ ربط التحقيق بين الشيخ منصور وفضيحة 1MDB الماليزية، التي تُعد من أكبر قضايا الفساد المالي عالميًا. استُخدمت أموال منهوبة لشراء يخوت فاخرة – أحدها يُدعى “توباز” وتجاوزت قيمته 600 مليون دولار – كما كشفت الأدلة عن تحويلات بمئات الملايين إلى شركاء مقربين من الشيخ.
ورغم أن منصور لم يُتهم رسميًا، إلا أن الادعاء الأميركي صنّفه “متآمرًا مشاركًا” في الفضيحة، وقد وافقت شركات تابعة له على دفع 1.8 مليار دولار لتسوية القضية مع ماليزيا.
مانشستر سيتي.. عندما تُصبح الرياضة أداة حرب
ورغم نجاحه الرياضي، فإن النادي يواجه حاليًا أخطر أزمة في تاريخه، بعد أن وجّه الدوري الإنجليزي 130 تهمة للنادي، من بينها تضخيم عائدات وهمية وتلقّي تمويلات مشبوهة من شركات إماراتية مملوكة للدولة، وقد عُرف هطا التحقيق في لندن إعلاميًا بـ”محاكمة القرن”، وقد يؤدي إلى طرد النادي من البريميرليغ، أو سحب ألقابه.
الأمر لم يقتصر على الرياضة فقط، فقد حاول الشيخ منصور شراء صحيفة Daily Telegraph البريطانية مقابل 600 مليون دولار، لكن الحكومة منعت الصفقة بقانون خاص، وعبّرت عن خشيتها من “ذوبان الحدود بين الشيخ والدولة”، على حد وصف أحد النواب، حيث أقرّ البرلمان البريطاني قانونًا منع الشيخ منصور فعليًا من الاستحواذ على صحيفة عريقة خشية التأثير على حرية الصحافة.
نفوذ متصاعد وجرائم بلا محاسبة
رغم تزايد الغضب في واشنطن، حيث دعا مشرّعون إلى وقف مبيعات الأسلحة للإمارات، ورغم اعتراض الخارجية البريطانية على السلوك الإماراتي، فإن النفوذ المالي الهائل للدولة لا يزال يحصّن أبناء زايد من المساءلة.
خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى أبو ظبي في مايو/أيار 2025، وقّع صفقة ذكاء صناعي بقيمة 200 مليار دولار، وأعلن عن استثمار إماراتي جديد في مشروع عملة رقمية تديره عائلته. بعدها بأيام، وافقت الإدارة على صفقة سلاح عاجلة للإمارات بقيمة مليار دولار، متجاوزة الكونغرس.
خلص تحقيق نيويورك تايمز، إلى أن الإمارات – عبر أبناء زايد، خاصة الشيخ منصور – لا تستخدم المال والنفوذ الرياضي فقط لغسيل سمعتها، بل كأدوات فعلية لتسليح أمراء الحرب، إعادة تشكيل خرائط السيطرة، وتكريس نموذج الدولة المستبدة التي تُدير الحروب عن بُعد، وتستثمر عوائد الذهب والدم في شراء كؤوس العالم وكتم أصوات الصحافة.
اضف تعليقا