على مدار 15 شهرًا من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي أودت بحياة نحو 50 ألف فلسطيني، وأصابت أكثر من 100 ألف آخرين، بينهم عشرات الآلاف من النساء والأطفال، لم يكن الاحتلال وحده في ساحة المعركة. فقد لعبت كبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية، مثل مايكروسوفت، غوغل، أمازون، وOpenAI، دورًا حيويًا في تمكين الجيش الإسرائيلي من تنفيذ هذه الإبادة الجماعية عبر توفير بنى تحتية سحابية متطورة، وأنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة، وقدرات تحليل بيانات غير مسبوقة.

لم يكن الأمر مجرد تعاون تقني عادي، بل كان دعمًا مباشرًا لمجهود عسكري إسرائيلي دموي، مكّن جيش الاحتلال من تنفيذ عمليات استهداف ممنهجة، وتحليل كميات ضخمة من بيانات الاستخبارات، وتعقب الفلسطينيين، واستهدافهم بفعالية مدمرة. هذا التحقيق، المستند إلى وثائق مسربة كشفت عنها واشنطن بوست والغارديان ومجلة +972 وDrop Site News، يوضح كيف تحولت هذه الشركات إلى شركاء رئيسيين في جرائم الحرب الإسرائيلية، من خلال عقود بمليارات الدولارات عززت من قدرات الاحتلال التقنية.

شركات التكنولوجيا على خط النار: من شريك تجاري إلى متواطئ في الجرائم

تظهر الوثائق المسربة أن الاحتلال الإسرائيلي لم يكن ليقدر على تنفيذ عملياته العسكرية بذات السرعة والكفاءة لولا الدعم الذي حصل عليه من هذه الشركات، التي قدمت بنية تحتية رقمية متقدمة سمحت بمعالجة البيانات الاستخباراتية، وتحليل صور الأقمار الصناعية، واستهداف المدنيين الفلسطينيين بمستوى غير مسبوق من الدقة والوحشية.

مايكروسوفت، التي بدأت تعاونها مع إسرائيل منذ سنوات، زادت من حجم مشاركتها خلال الحرب، حيث استخدمت قوات الاحتلال تقنياتها السحابية، وخاصة منصة Azure، لتخزين وتحليل كميات هائلة من البيانات الاستخباراتية. كما قدمت مايكروسوفت دعمًا مباشرًا للوحدة 8200، وهي وحدة الاستخبارات الإسرائيلية المسؤولة عن التجسس والمراقبة وشن الهجمات السيبرانية.

أما غوغل، فقد منح جيش الاحتلال إمكانية الوصول إلى أحدث أنظمة الذكاء الاصطناعي، رغم احتجاجات موظفيها الذين طالبوا الشركة بعدم التورط في دعم حكومة متورطة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وقامت غوغل بتوسيع نطاق عقد نيمبوس، وهو عقد الحوسبة السحابية مع إسرائيل، حيث مكّنت قوات الاحتلال من استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في عمليات تحديد الأهداف والضربات الجوية.

أمازون، التي تتباهى بسياسات أخلاقية تجاه “الاستخدام المسؤول للتكنولوجيا”، وجدت في الحرب فرصة لتعزيز موقعها كشريك رئيسي لإسرائيل، حيث وفّرت البنية التحتية الحوسبية اللازمة لتخزين وتحليل بيانات المراقبة، بما في ذلك التسجيلات الصوتية والمرئية التي يتم اعتراضها من الفلسطينيين في غزة.

شركة OpenAI، التي تُعرف عالميًا بأنها رائدة في تطوير الذكاء الاصطناعي، فقد تخلت عن تعهداتها بعدم التعاون مع الأنظمة العسكرية، حيث سمحت لإسرائيل باستخدام نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل GPT-4، الذي تم دمجه في عمليات تحليل البيانات وتقييم السيناريوهات العسكرية المحتملة.

كيف وفرت شركات التكنولوجيا الكبرى أدوات الإبادة الجماعية لإسرائيل في غزة؟

كيف وفرت شركات التكنولوجيا الكبرى أدوات الإبادة الجماعية لإسرائيل في غزة؟

مليارات الدولارات من أجل الحرب: الجانب المالي للكارثة

لم يكن دعم هذه الشركات لإسرائيل مجرد تعاون تقني، بل استثمارًا ضخمًا في الحرب، حيث أظهرت الوثائق المسرّبة أن هذه الشركات حصلت على عقود بمليارات الدولارات خلال فترة الحرب، لتوسيع قدراتها الحوسبية والاستخباراتية لصالح الجيش الإسرائيلي، فيما يلي سرد لأبرز الصفقات بين هذه الشركات وبين جيش الاحتلال الإسرائيلي:

مايكروسوفت

كانت مايكروسوفت واحدة من أكثر الشركات تورطًا في دعم الاحتلال، حيث استخدمت إسرائيل منصة Azure الحوسبية السحابية في تحليل البيانات الاستخباراتية، ومراقبة الفلسطينيين، وتحديد الأهداف العسكرية. قدمت مايكروسوفت للجيش الإسرائيلي إمكانية الوصول إلى GPT-4 عبر Azure، مما مكن وحدات الاستخبارات، لا سيما الوحدة 8200 والوحدة 9900، من تنفيذ عمليات تنصت وتجسس مكثفة وتحليل صور الأقمار الصناعية لاختيار الأهداف بدقة.

دفعت إسرائيل لمايكروسوفت 10 ملايين دولار خلال الحرب، لشراء 19,000 ساعة من الدعم الهندسي والاستشاري لدعم العمليات العسكرية والاستخباراتية.

ارتفع استهلاك إسرائيل لخدمات Azure بنسبة 60% خلال الأشهر الستة الأولى من الحرب، بينما ارتفع استهلاكها لأدوات التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي على Azure بمقدار 64 ضعفًا.

غوغل

غوغل، عبر عقد “نيمبوس” الذي تبلغ قيمته عدة مليارات من الدولارات، وفّرت الحوسبة السحابية للجيش الإسرائيلي، وقد سمحت غوغل باستخدام  Vertex AI، الذي مكّن إسرائيل من تحليل بيانات المراقبة، وتحليل الاتصالات الميدانية، والتخطيط للعمليات العسكرية.

في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، طلب الجيش الإسرائيلي الوصول إلى تقنية  Gemini AI، التي ساعدت في تطوير مساعد ذكاء اصطناعي لتحليل المستندات والاستخبارات الصوتية.

وإمعانًا في التأكيد على تورطها في جرائم إسرائيل، طردت غوغل 50 موظفًا احتجاجًا على هذا التعاون، مما يعكس مدى تورطها في دعم إسرائيل عسكريًا.

أمازون

أمازون، إلى جانب غوغل، كانت شريكة رئيسية في عقد نيمبوس، مما مكن الجيش الإسرائيلي من تخزين وتحليل بيانات التجسس، والتنصت على الفلسطينيين، ومعالجة صور الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة، وقد وفرت أمازون للجيش الإسرائيلي الأدوات اللازمة لتحليل البيانات الضخمة واستخدامها في التخطيط العسكري، وتوجيه الهجمات الجوية ضد المدنيين في غزة.

شركة OpenAI

سمحت OpenAI للجيش الإسرائيلي باستخدام  GPT-4، الذي تم دمجه في أنظمة المراقبة وتحليل البيانات، مما ساعد في فرز الأهداف وتصنيف المدنيين والمقاتلين، وقد بلغت استثمارات مايكروسوفت في OpenAI 13 مليار دولار، مما جعل تقنياتها جزءًا من عمليات الاستهداف العسكري الإسرائيلي.

كيف استخدمت إسرائيل هذه التقنيات في الإبادة الجماعية؟

لم تكن هذه التقنيات مجرد أدوات لتسهيل العمليات العسكرية، بل كانت محرّكًا رئيسيًا وراء سرعة وفعالية القصف الإسرائيلي العشوائي الذي استهدف المدنيين، من بين هذه البرمجيات التي كان لها تأثير مباشر على حياة الفلسطينيين:

📌 نظام  “Rolling Stone”، الذي طورته مايكروسوفت، سمح لقوات الاحتلال بإدارة معلومات السكان الفلسطينيين وحركة تنقلهم، مما مكّنهم من فرض قيود مشددة على تنقل المدنيين في غزة والضفة الغربية.

📌 قاعدة بيانات “بنوك الأهداف، التي استخدمتها الوحدة الجوية الإسرائيلية، ساعدت في تحديد مواقع الهجمات بناءً على بيانات تم تحليلها من خلال تقنيات مايكروسوفت السحابية، مما أدى إلى استهداف مناطق سكنية بأكملها ومحو بلدات من الوجود.

📌 مساعد الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي، الذي طلب الجيش الإسرائيلي تطويره باستخدام تقنية Gemini AI من غوغل، ساعد في تحليل المستندات، وإدارة الصوتيات، وتوجيه الطائرات المسيرة في استهداف المدنيين.

📌 التنصت على الفلسطينيين، باستخدام أنظمة تحليل الصوت والفيديو المقدمة من أمازون ومايكروسوفت، حيث تمت مراقبة كل مكالمة هاتفية أو رسالة نصية في قطاع غزة، مما سمح للاحتلال بتحديد الأفراد المستهدفين بشكل فوري.

كما طورت إسرائيل عدد من الأدوات وأنظمة ذكاء اصطناعي خاصة لمساعدتها في هذا الدور، مثل:

📌 أداة Habsora  (البشارة)

    • نظام يعتمد على مئات الخوارزميات لتحليل البيانات الاستخباراتية، وتقديم قوائم بالضحايا المحتملين.
    • تم استخدامه لتحديد آلاف الأهداف بشكل شبه تلقائي، مما أدى إلى قصف عشوائي لمناطق سكنية.

 📌أداة The Gospel

    • أداة تصنيف تستند إلى الذكاء الاصطناعي، تعمل على تحليل البيانات الضخمة لمساعدة الجيش الإسرائيلي في تحديد الأهداف بناءً على معلومات استخباراتية.

  📌 أداة Lavender

    • نظام آخر يُستخدم في اختيار الأهداف، يعتمد على معايير تقنية لتحديد “المشتبه بهم”، مما أدى إلى تصنيف عدد كبير من المدنيين كأهداف عسكرية.

 

ما يكشفه هذا التحقيق ليس مجرد تعاون عادي بين شركات التكنولوجيا والجيش الإسرائيلي، بل تورط مباشر في جرائم الإبادة الجماعية. هذه الشركات، التي تدّعي التزامها بالمعايير الأخلاقية، كانت شريكًا فاعلًا في ارتكاب الجرائم، حيث وفرت الأدوات اللازمة للقمع، والتجسس، والاستهداف العسكري، مقابل عقود بمليارات الدولارات.

اليوم، وبعد الكشف عن هذه الوثائق، يبقى السؤال الأهم:

  • هل ستتم محاسبة هذه الشركات على دورها في الحرب؟
  • هل سيتحرك المجتمع الدولي لكبح جماح هذه الشركات التي تحوّلت إلى مورد أساسي للحروب والإبادات؟

أم أن غزة، التي تحوّلت إلى مختبر لتقنيات القتل الجماعي، ستبقى شاهدة على أكبر تواطؤ بين رأس المال والتكنولوجيا ضد الإنسانية؟

التاريخ لن ينسى… لكن هل سيتحرك العالم؟