وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران ليس سوى هدنة لفظية هشة قد تنهار في أية لحظة، وبحسب الكاتب الصحفي سايمون تسدال، فإن المشهد الإقليمي لا يوحي بانفراج قريب، بل إن كل المؤشرات تنذر بعودة دورة العنف من جديد، مدفوعة برغبة دفينة لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في إدامة الصراع، وتوظيفه سياسيًا لتثبيت حكمه، تمامًا كما يفعل فلاديمير بوتين في روسيا. فالأنظمة الثيوقراطية المتطرفة لا تعيش إلا على دمار البلاد التي حولها، وساسة كهؤلاء لا يعرفون معنى للتراجع، ولا مصلحة لهم في نهاية الحروب.

الرئيس الأمريكي، الذي لا يقل غروره عن جهله، يواصل ترديد شعارات فارغة عن السلام، لكنّ الواقع على الأرض يعكس تجاهلًا مطبقًا من قبل القادة الفعليين في تل أبيب وطهران لأي حلول جادة. مئات القتلى وآلاف الجرحى وملايين المدنيين الذين أرهبتهم الطائرات والصواريخ، كلهم لا وزن لهم في حسابات من يعتبرون الحرب فرصة للهيمنة والبقاء في السلطة.

نتنياهو لم يُنهِ حربه، بل بالكاد بدأ مرحلة جديدة منها، حتى إذا صحّت مزاعم دونالد ترامب بأن المنشآت النووية الإيرانية “دُمّرت بالكامل”، فإنّ ما تبقى من المعرفة التقنية والمخزون غير المعلن من اليورانيوم المخصب كفيل بإشعال حرب أخرى عند أول ذريعة حقيقية أو مفتعلة. لا شيء يمنع نتنياهو من تجديد الهجوم، لا سيما إن كان ذلك يخدم طموحاته السياسية الداخلية. فالرجل يفكر فعليًا في انتخابات مبكرة، ويأمل أن تحجب ضرباته لإيران فشله الذريع في 7 أكتوبر 2023، وتخليه عن عشرات الرهائن المحتجزين لدى حماس.

منذ مارس/آذار الماضي، حين دمّر نتنياهو بقرار منفرد وقف إطلاق النار في غزة، أطلق العنان لماكينة عسكرية لا تتوقف، استهدفت مدنيين فلسطينيين بالرصاص في مراكز توزيع الغذاء وفي مدن الضفة الغربية، فيما تحوّلت رفح إلى مشهد متكرر من “أحد دموي” لا يتوقف. في لبنان وسوريا، تُسقِط الطائرات الإسرائيلية قنابلها بلا مساءلة. نتنياهو، الذي لا يكفّ عن طحن المنطقة عسكريًا، لن يكون مختلفًا حين يتعلق الأمر بإيران، من يعتاد على القتل لن يتوقف عنه طواعية.

العالم يكره الحروب التي لا تنتهي، مثل الحروب في أفغانستان والعراق، لكنّ نتنياهو يجد فيها مصدر قوته. السلام بالنسبة له هو الخطر الحقيقي، لأنه يجرّده من صولجان الحرب، ويعرّضه للمساءلة القانونية، وربما السجن. تمامًا كالرئيس الروسي، يستخدم نتنياهو آلة الحرب لتعزيز شعبيته ومهاجمة خصومه، ضاربًا بعرض الحائط كل مفاهيم الديمقراطية، وسيادة القانون، والحكم الرشيد. ومن هذه الزاوية، لا يبدو دونالد ترامب بعيدًا عن المسار ذاته؛ حربه الأبدية ليست مع الخارج، بل مع “العدو الداخلي”، كما يدّعي.

ورغم خطابه المصور الذي خاطب فيه الشعب الإيراني داعيًا إياهم إلى التمرّد على “نظامهم الشرير”، فإنّ حرص نتنياهو على حريتهم لا يتعدى كونه ذريعة استعمارية قديمة. ما يريده فعلًا هو إضعاف إيران إلى الأبد، وتمزيق نسيجها الداخلي، وإبقاؤها دولة عاجزة يمكن قصفها وابتزازها متى شاء. السيطرة على أجوائها، إلى جانب الهجمات الإلكترونية والاغتيالات السرية، هي أدوات إسرائيلية لإبقاء طهران تحت السيطرة، أو هكذا يتوهم نتنياهو.

وفي طهران، تبدو الأمور أبعد ما تكون عن الهدوء؛ فبعد استهداف إسرائيل لشخصيات بارزة في الداخل والخارج، ومع تصاعد الدعوات الغربية لتغيير النظام، خرج المرشد الإيراني علي خامنئي من عزلته ليشنّ حربًا أخرى – هذه المرة على شعبه. حملة اعتقالات واسعة طالت المئات، وتنفيذ أحكام إعدام بحق من وُصفوا بالجواسيس، فيما تشير التحليلات إلى أن النظام الديني الحاكم، في محاولة يائسة للبقاء، قد يسعى سرًا إلى امتلاك قنبلة نووية أو حتى شرائها من كوريا الشمالية.

على الرغم من قسوة الضربات، لم يكن النظام الإيراني على وشك السقوط. بل على العكس، زادت الهجمات الإسرائيلية من حالة التلاحم الداخلي، وغذّت المشاعر القومية. إيران استُهدفت على خلفية مزاعم غير مدعومة من الاستخبارات الأمريكية أو الأمم المتحدة بشأن نواياها النووية، دون أي إدانة أوروبية واضحة. هذا التجاهل سيزيد من فقدان الثقة بالغرب.

طهران تريد رفع العقوبات، وقد توافق على مناقشة ذلك، لكن ليس على حساب مستقبل برنامجها النووي. وها هي تُعلّق تعاونها مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وترفض سياسة الاحتواء الإسرائيلي، وقد تعود قريبًا إلى حروبها غير المتكافئة، وتحريك وكلائها في المنطقة.

الحرب لم تنتهِ أيضًا بالنسبة لترامب. الرجل الذي يحلم بجائزة نوبل للسلام يتوهّم أنّه صنع إنجازًا، لكنه في الواقع جعل العالم أكثر خطرًا. قراره بشنّ هجوم مفاجئ على إيران، في عملية وُصفت بأنها تشبه “بيرل هاربر”، لم يخرق فقط ميثاق الأمم المتحدة، بل سيمنح مبررًا جديدًا للدول المارقة كي تمارس العدوان تحت غطاء الشرعية الزائفة. بمواصلته دعم نتنياهو، المتهم بارتكاب جرائم حرب، يفتح ترامب على نفسه باب الملاحقة أمام المحكمة الجنائية الدولية.

سياسات ترامب الكارثية أضعفت الدبلوماسية متعددة الأطراف، ووضعت الحلفاء الأوروبيين جانبًا، وأهانت الخبراء، واعتمدت على مبعوثين هواة، بينما تعززت صورة الولايات المتحدة كحليف لا يمكن الوثوق به. وقف إطلاق النار في الشرق الأوسط لا يتجاوز كونه وقفة قصيرة، سرعان ما قد تنهار تحت ضربات الجموح العسكري والسياسي. ترامب أراد مجدًا سريعًا، لكنه أخطأ الهدف تمامًا.

هذه الحرب لم تحقق سوى المزيد من البؤس والدمار وانعدام الأمن. لم يكن فيها أي مكسب حقيقي يُذكر، بل خلّفت كوارث تُضاف إلى رصيد الحروب العبثية في المنطقة. استخدام القوة العمياء نادرًا ما يحقق السلام، وغالبًا ما يضاعف الأزمات. السؤال الآن: متى سيفهم هؤلاء الشيوخ الغاضبون هذه الحقيقة؟ على الأرجح، لن يفهموا أبدًا، ما لم يجد مَن يواجههم من داخل المؤسسات الديمقراطية، قبل أن يُغرقوا العالم كله في مزيد من الحروب التي لا نهاية لها.