العدسة – مؤيد كنعان

في عام 1839، غزت بريطانيا الصين لسَحْق المعارضة؛ لتدخُّلها في الشؤون الاقتصادية والسياسية للبلاد، وكان أحد أهم أهداف بريطانيا الحربية هو احتلال هونج كونج؛ الجزيرة المأهولة بالسكان قبالة سواحل جنوب شرقي الصين.

وبعد انتهاء المعركة، تَمّ توقيع “اتفاقية نانجينغ”، التي تنازلت فيها الصين عن هونج كونج إلى بريطانيا، وشهدت المستعمرة البريطانية الجديدة (جزيرة هونج كونج) ازدهارًا؛ أذ اصبحت مركزًا تجاريًا بين الشرق والغرب وبوابة تجارية ومركز توزيع لجنوب الصين، وفي عام 1898، حصلت بريطانيا على 99 عامًا إضافية من الحكم على هونغ كونغ بموجب اتفاقية بكين الثانية.

وفى سبتمبر 1984، وبعد سنوات من المفاوضات، وقع البريطانيون والصينيون اتفاقية رسمية بالموافقة على إعادة الجزيرة إلى الصين في عام 1997 مقابل تعهد الصين بالحفاظ على النظام الرأسمالي لهونج كونج.

وفي الأول من يوليو عام 1997 سُلِّمت هونج كونج رسميًا إلى الصين في مراسم حضرها عدد من كبار الشخصيات الصينية والبريطانية، وضع الرئيس التنفيذي لحكومة هونج كونج الجديدة تونغ تشى هوا ، سياسة تقوم على مفهوم “دولة واحدة ونظامين”، مما يحافظ على دور هونج كونج كمركز رأسمالي رئيس في آسيا.

بين نانجينغ ولوزان

ثمة تحليلات تشير إلى تشابهات بين اتفاقية “نانجينغ” و اتفاقية “لوزان”، والتي تَمّ توقيعها عام 1923م، وتنازلت بموجبها الدولة العثمانية عن أراضٍ شاسعة كانت تضمها، وهي مصر والسودان والشام، وأراضٍ من أوروبا، وترسيم الحدود بين تركيا واليونان وبلغاريا، بما أفضى إلى تأسيس الجمهورية التركية بزعامة مصطفى كمال أتاتورك، وإعلان إلغاء الخلافة الإسلامية، وبدء علمانية الدولة.

المثير أنَّ أقاويل وتأكيدات تشير إلى قرب انتهاء معاهدة لوزان في عام 2023، وذلك بعد 100 عام من توقيعها، مستندين إلى أنَّ أية معاهدة دولية تكون مدتها 100 عام فقط.

الأكثر غرابةً هو ما أثير حول نص المعاهدة على منع تركيا من التنقيب عن النفط، وحرمانها من تحصيل رسوم من السفن والبواخر العابرة من مضيق البوسفور، الرابط بين البحر الأسود وبحر مرمرة، واعتبار أنه ممر دولي لا سيادة اقتصادية لتركيا عليه.

مضيق “البوسفور”

 

“البوسفور” و السيادة التركية

لكن هل ما سبق صحيح؟

من المهم هنا الإشارة بشيء من التفصيل إلى معاهدة لوزان 1923..

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 أبرمت دول الحلفاء المنتصرة “معاهدة سيفر” يوم 10 أغسطس 1920، وتقاسمت بموجبها أراضي الدولة العثمانية، وأعطت معظم القوميات غير التركية في الدولة العثمانية استقلالها، ولكنَّ الأتراك رفضوا هذه المعاهدة وخاضوا حربًا شرسة ضد الحلفاء حتى انتصروا عليهم انتصارًا كبيرًا، وخاصة على اليونان خلال حرب 1922-1923.

بنود “لوزان”

وفي أعقاب ذلك عُقد “مؤتمر لوزان الثاني”، الذي استمرّت أعماله ثلاثة أشهر، وتمخض عن توقيع “معاهدة لوزان” اتفاقية سلام دولية يوم 24 يوليو عام 1923 في فندق “بوريفاج بالاس” بمدينة لوزان جنوبي سويسرا، وكانت أطراف المعاهدة القوى المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى (خاصة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا)، والإمبراطورية العثمانية التي ترأس وفدها إلى المؤتمر عصمت إينونو، وقسمت على أساسها رسميًا الإمبراطورية العثمانية، وتَمَّ تأسيس الجمهورية التركية برئاسة مصطفى كمال أتاتورك.

من أهم ما تضمنته معاهدة لوزان الثانية:

  • ترسيم حدود إمبراطورية الخلافة العثمانية التي كانت الدول الغربية تسميها آنذاك “الرجل المريض”، والتي أسّست لقيام الدولة التركية القومية الحديثة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، وعاصمتها أنقرة.
  • تضمنت 143 مادة موزعة على 17 وثيقة ما بين “اتفاقية” و”ميثاق” و”تصريح” و”ملحق”، وتناولت ترتيبات الصلح بين الأطراف الموقعة على المعاهدة، وإعادة تأسيس العلاقات الدبلوماسية بينها “وفقًا للمبادئ العامة للقانون الدولي”.
  • وضعت قوانين لاستخدام المضايق المائية التركية وقواعد المرور والملاحة فيها زمن الحرب والسلم، ونصَّت على شروط الإقامة والتجارة والقضاء في تركيا، وإعادة النظر بوضعية الدولة العثمانية ومآل الأراضي التي كانت تابعة لها قبل هزيمتها في الحرب العالمية الأولى خلال 1914-1918.
  • أبطال “معاهدة سيفر” وبنودها المجحفة بحقّ الدولة العثمانية، والتأسيس لما عُرف لاحقًا بـ”الجمهورية التركية” العلمانية بعد إلغاء نظام الخلافة الإسلامية، ورسّمت حدود اليونان وبلغاريا مع الدولة التركية التي حافظت على ضمّ إسطنبول وتراقيا الغربية، وتضمنت بنودًا تتعلق بتقسيط ديون الدولة العثمانية.
  • تخلت تركيا عن السيادة على قبرص وليبيا ومصر والسودان والعراق وبلاد الشام، باستثناء مدن كانت تقع في سوريا مثل أورفا وأضنة وغازي عنتاب وكلس ومرعش، وبتنازل الدولة العثمانية عن حقوقها السياسية والمالية المتعلقة بمصر والسودان اعتبارًا من نوفمبر عام 1914.

توقيع معاهدة “لوزان”

 شائعات

عند الاطلاع على نصوص المعاهدة، لا تجد فيها سوى ما سبق، أي أنّه لا وجود لأية بنود تتحدث عن منع تركيا عن التنقيب عن النفط، أو  تحصيل الرسوم من السفن المارة عبر مضيق البسفور.

باحثون أتراك يؤكّدون أنّ كل ما يثار عن تحديد مدة للاتفاقية بـ 100 عام ليس صحيحًا، مشيرين إلى أنّه لا يوجد في القانون الدولي ما يشير إلى أنّ صلاحية الاتفاقيات الدولية 100 عام فقط، وفي حالة اتفاقية لوزان، لا يوجد بند يحدّد مدة لها، لكنهم أوضحوا أيضًا أنَّ ذلك لا يعني أنها مؤبدة، فلتركيا الحق في إثارتها مجددًا، والمطالبة بإعادة النظر فيها.

لكن بالفعل تَمّ رصد ما يشبه الحملات المنظمة على مواقع التواصل لخلق حالةٍ وعي عام بالمعاهدة وآثارها السلبية على تركيا، واعتبر محللون أنَّ الحكومة التركية ترعى تلك الحملات، وذلك انتظارًا للحظة قد يتم فيها الحديث عن تبعات تلك الاتفاقية.

” رجب طيب أردوغان “

ماذا تريد تركيا؟

في بداية أكتوبر 2016، طالب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتعديل اتفاقية لوزان، وجاء ذلك بالتزامن مع نشر وسائل إعلام تركية مستندات عن اتفاقية تاريخية موقعة بين تركيا والانتداب البريطاني في العراق عقب الحرب العالمية الأولى، تتيح ـ بحسبهم ـ للجيش التركي التدخل لحماية التركمان في مدينة الموصل.

ومن المعروف أنَّ التواجد العسكري التركي في شمال العراق يخبو، لكنّه سرعان ما ينشط، وسط حديث أنقرة عن تأصيل تواجد جيشها في تلك المناطق، ومراقبته باستمرار للأحوال في الموصل، ورفض إخلاء معسكر بعشيقة التركي هناك.

واقعيًا، يدور الحديث حول توافق تركي روسي إيراني حدث مؤخرًا بتمكين أنقرة من السيطرة على الموصل وكركوك بشكل تدريجي، مقابل التزام أنقرة بعدم الحديث عن حقوق تاريخية لها في حلب، وترك الملف السوري للإداة الروسية، والتي تعتبره ورقة نفوذ مهمة لها بالمنطقة، وأيضًا إمكانية تشارك إيران في إدارة كركوك مع تركيا، وذلك بالطبع بعد تجاوز عقبة الأكراد، والعقبة الأكبر.. الولايات المتحدة، التي ترفض هذه التوجهات وتقاومها.

على هذا الأساس قد يكون الحديث عن إلغاء اتفاقية لوزان إرادة تركية روسية مشتركة، وهو ما سيعطي زخمًا كبيرًا للأمر، ويدفع روسيا إلى كسب ورقة إضافية في مواجهتها مع الأوروبيين، بدعم تركي، المنافع متبادلة بين موسكو وأنقرة حيال هذا الأمر.

في نفس الوقت، ستحرص موسكو على أن تكون تحركات تركيا في إطار إلغاء أو حلحلة اتفاقية لوزان منضبطة، بما لا يسمح للأتراك بالحديث أو حتى مجرد تصور الحديث عن إعادة الإمبراطورية العثمانية، لأنَّ ربط هذا الأمر بإلغاء المعاهدة معناه أن تطالب أنقرة بضمّ قبرص بالكامل وأراضٍ أوروبية ومصر والشام، وهو ما لا يمكن تخليه من الأساس.