في الثالث من يوليو/تموز 2013، أطلّ عبدالفتاح السيسي بزيّه العسكري معلنًا الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر الحديث، دافعًا بالبلاد إلى مسار غير مسبوق من القمع والهيمنة الأمنية وتفكيك البنية السياسية والاجتماعية.
وبعد مرور 12 عامًا على هذا الانقلاب، يبرز سؤال وجودي في المشهد المصري: هل حقق نظام السيسي استقرارًا سياسيًا حقيقيًا؟ أم أنه أقام عرشًا هشًا فوق أنقاض وطن محطم وجيش قلق وتحالفات خارجية مشروطة؟
المتأمل لتاريخ مصر منذ 2013 لا يلمح ملامح استقرار بقدر ما يرى نظامًا حكم بالقوة لا بالشرعية، وفرض قوانين استثنائية وأحاط نفسه بأسوار من الاعتقالات والملاحقات، وحتى شركاء “الانقلاب” أنفسهم لم يسلموا من الإزاحة والإقصاء.
الحكم بالقوة: أجهزة القمع بدلًا من المؤسسات
منذ اللحظة الأولى لإطاحة محمد مرسي، عمل السيسي على إعادة هندسة الدولة لتصبح خاضعة بالكامل لإرادة الرئيس، بدءًا من تعليق الدستور، ومرورًا بفضّ اعتصامي رابعة والنهضة في مجزرة دموية، ثم إعلان جماعة الإخوان منظمة إرهابية، وما تبع ذلك من حملات اعتقال واسعة شملت كل أطياف المعارضة، من إسلاميين إلى ليبراليين وحتى صحفيين ومحامين.
أصدر السيسي عشرات القوانين الاستثنائية مثل “قانون التظاهر”، و”مكافحة الإرهاب”، و”الكيانات الإرهابية”، ومنح الجيش سلطات قضائية وتشريعية، ووسع من صلاحيات الأجهزة الأمنية، ليصبح جهاز الأمن الوطني والمخابرات العامة هما الحاكم الفعلي في المشهد المصري.
كل هذه الإجراءات كانت تهدف –بحسب مراقبين– إلى حماية رأس النظام، لا حماية الدولة، وهو ما أنتج دولة ضعيفة تابعة، بلا معارضة، بلا مجتمع مدني فاعل، وبلا رقابة على السلطة التنفيذية، في مشهد لم تعرفه مصر حتى في أكثر عصورها قمعًا.
تفكيك الشركاء وبناء نظام الخوف
واحدة من أبرز مفارقات نظام السيسي أنه أطاح بكل من شاركوه في انقلاب 3 يوليو، من رئيس الوزراء حازم الببلاوي، إلى وزير الداخلية محمد إبراهيم، إلى وزير الدفاع صدقي صبحي، ثم أخيرًا وزير الدفاع محمد زكي، ورئيس الأركان أسامة عسكر، ومدير المخابرات عباس كامل، الذراع الأبرز للسيسي.
هذا النمط من الإقصاء لم يكن عشوائيًا، بل يحمل دلالة على أن السيسي لا يثق في أحد، حتى أقرب حلفائه، خشية من انقلاب داخلي أو طموح عسكري جديد. ولعل الإبقاء فقط على اللواء ممدوح شاهين في تشكيل المجلس العسكري الجديد يكشف عن حالة عزلة وخوف داخل دوائر الحكم نفسها.
ما يبدو من الخارج “استقرارًا” ليس سوى نظام هشّ، قائم على تبديل الوجوه كلما ظهرت ملامح تمرد محتمل، ما يعني أن السيسي لم يشعر يومًا بالأمان، رغم أنه يسيطر على كل مفاصل الدولة.
تحالفات مرتهنة وتنازلات مُكلفة
استقرار الأنظمة عادة ما يُبنى على توازن داخلي ودعم خارجي محسوب، لكن السيسي اختار طريقًا مختلفًا، قائمًا على الارتهان الكامل لقوى خارجية مقابل البقاء. فبعدما جاء بدعم سعودي-إماراتي-إسرائيلي، باتت قرارات مصر الإقليمية مرهونة بتوجهات تلك القوى.
في ليبيا، وقف إلى جانب خليفة حفتر إرضاءً لأبوظبي، رغم ما يمثله من تهديد استراتيجي لحدود مصر. وفي السودان، اتخذ موقفًا باهتًا رغم الخطر المباشر الذي يهدد أمن مصر القومي، بسبب الخشية من غضب داعميه الخليجيين. أما في ملف سد النهضة، فقدّم تنازلات تاريخية لإثيوبيا، ساهمت في تعقيد الأزمة.
وتعد التنازلات الكبرى مثل التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، ثم الاعتماد على إسرائيل في ملف الغاز، مؤشرات على أن النظام قدّم مصالح مصر السيادية كأثمان لاستمراره.
الاحتقان الداخلي.. قنبلة موقوتة
داخليًا، يواجه السيسي أزمات اجتماعية واقتصادية لم يعرفها المصريون من قبل. التضخم، انهيار الجنيه، فشل مشروعات البنية التحتية، الخصخصة الجائرة، والديون الخارجية التي تجاوزت 165 مليار دولار، جميعها تسببت في حالة من الإحباط واليأس الشعبي.
أزمات مثل قانون الإيجار القديم، وانهيار الخدمات الأساسية، وأزمات الكهرباء والطاقة، مرشحة للانفجار في أي لحظة، خصوصًا مع غياب آليات حقيقية للمحاسبة أو التعبير عن الغضب.
وبحسب الدكتور مراد علي، فإن السيسي لم يشعر بالاطمئنان يومًا، وكل قراراته الأمنية والاقتصادية نابعة من شعور عميق بفقدان الشرعية وخوف دائم من الإطاحة به، سواء من الشعب أو من داخل مؤسسات الدولة.
احتمالات المستقبل: نهاية مرحلة أم بداية انفجار؟
السياسي المصري يحيى موسى يرى أن السيسي قد لا يُكمل فترته الرئاسية الحالية، مرجحًا حدوث تغيير مفاجئ خلال عام على أبعد تقدير، سواء من الداخل أو عبر تحولات خارجية تُضعف دعم حلفائه.
وفي ظل أزمات متراكمة، وتململ في المؤسسة العسكرية، وضغوط خارجية متصاعدة، يصبح السؤال ليس “هل استقر نظام السيسي؟” بل “إلى متى سيبقى رغم هذا الخراب؟”. فالثبات على عرش من رماد لا يعني الاستقرار، بل تأجيل الانهيار.
خاتمة: استقرار فوق الأطلال
بعد 12 عامًا على انقلاب 3 يوليو، لم يحقق السيسي استقرارًا سياسيًا حقيقيًا، بل أقام نظامًا بوليسيًا هشًا، قائمًا على الخوف والتنازلات وقمع الداخل، وارتهان الخارج.
وإذا كانت أنظمة الحكم تُقاس بقدرتها على ترسيخ قواعد المشاركة السياسية والتنمية الشاملة، فإن نظام السيسي قد يكون واحدًا من أكثر النماذج فشلًا في تاريخ مصر الحديث، وربما يدفع الشعب –وهو غارق في الأزمات– للبحث عن تغيير جذري في قادم الأيام.
اقرأ أيضًا : بين نيران غزة والعدوان على إيران.. ماذا لو كان مرسي حاضرًا اليوم؟
اضف تعليقا