في سابقة مأساوية لم يشهدها العالم منذ نحو ثلاثة عقود، كشفت الأمم المتحدة في تقرير جديد أن عام 2024 سجل أعلى عدد من الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال في مناطق النزاعات المسلحة منذ عام 1996، محذرة من التدهور المتواصل في حماية الطفولة وسط صمت دولي وتجاهل فاضح للقانون الإنساني الدولي.

التقرير المكوّن من 40 صفحة رصد أكثر من 41,000 انتهاك جسيم، بزيادة بنسبة 25% عن عام 2023، ليجعل من العام المنصرم الأسوأ منذ إنشاء مكتب الممثلة الخاصة المعنية بالأطفال والنزاع المسلح.

التقرير الأممي لم يكن فقط توثيقاً إحصائياً، بل صرخة ضمير عالمي تجاه الأوضاع المتردية، حيث تصدّرت إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، والسودان، واليمن، وسوريا، ولبنان، إضافة إلى دول أخرى مثل الكونغو وهاييتي، قائمة البلدان التي شهدت أسوأ الانتهاكات، فيما تجاهل العالم عمداً دور بعض الأنظمة في إذكاء النزاعات وتسليح الميليشيات، وعلى رأسها الإمارات، التي اتهمها التقرير ضمناً بتأجيج الحروب وتمويل المرتزقة في اليمن وليبيا والسودان.

فلسطين في قلب الجرح: الاحتلال الإسرائيلي على “قائمة العار” من جديد

بحسب التقرير، فإن الاحتلال الإسرائيلي واصل ارتكاب انتهاكات واسعة بحق الأطفال الفلسطينيين، حيث وثّقت الأمم المتحدة 8,554 انتهاكاً جسيماً بحق 2,959 طفلاً، معظمهم في الضفة الغربية (3,688) وقطاع غزة (4,856). 

التقرير لم يكتفِ بالإحصاء، بل أدرج للعام الثاني على التوالي الجيش الإسرائيلي ضمن “قائمة العار”، وهو ما يعكس استمرار سياسة ممنهجة لاستخدام القوة المفرطة في مناطق مأهولة، دون اكتراث بالقانون الدولي الإنساني.

وأكد الأمين العام أنطونيو غوتيريش أن ما يحدث في الأراضي الفلسطينية لا يمكن تبريره، مشيراً إلى “الاستخدام واسع النطاق للأسلحة المتفجرة في المناطق المدنية”، وهو ما أدى إلى قتل وتشويه مئات الأطفال، وتدمير المدارس والمستشفيات، ومنع وصول المساعدات.

الأمم المتحدة، ورغم تحفظها الدبلوماسي، طالبت إسرائيل بالتوقيع على خطة عمل لوقف الانتهاكات، في وقت لمّح فيه التقرير إلى ضرورة محاسبة الاحتلال على جرائمه، لا سيما مع تصاعد أعداد الأطفال الشهداء في الحرب الأخيرة على غزة.

السودان واليمن: أطفال بين نيران المرتزقة وطائرات التحالف

في السودان، التي تمزقها الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، تحقق التقرير من 2,041 انتهاكاً ضد 1,882 طفلاً، بينهم 752 طفلاً قتيلاً و987 مشوهاً. ما يثير القلق هو الإشارة المتكررة إلى العنف الجنسي والهجمات على المدارس والمشافي، وسط صمت دولي، وتورط إقليمي مباشر.

التقرير وإن لم يصرّح صراحة، أشار ضمنياً إلى دور الإمارات في إذكاء هذا الصراع عبر دعمها لقوات “حميدتي”، المتهمة بارتكاب جرائم ضد المدنيين، من خلال تمويل وتسليح الميليشيات والمرتزقة، وتوفير الدعم اللوجستي، كما بيّنت تقارير سابقة.

أما اليمن، فقد رصد التقرير 583 انتهاكاً ضد 504 أطفال، مؤكداً أن غالبية الانتهاكات تعود إلى التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات، وفصائل متصارعة تستهدف المدنيين بشكل متكرر. ودعا الأمين العام الأطراف إلى الانخراط في “عملية سياسية شاملة” تضع حماية الأطفال في صلب أي اتفاق، في وقت تستمر فيه عمليات القصف والتجويع.

سوريا ولبنان: صراع مزمن يلتهم جيلاً كاملاً

أما في سوريا، فقد تحققت الأمم المتحدة من 1,300 انتهاك ضد 1,205 أطفال خلال عام 2024، وهو رقم مرعب يكشف استمرار آلة القتل، خصوصاً في مناطق الشمال الشرقي والجنوب. ويطالب التقرير بضرورة تسريع العملية السياسية وفق القرار الأممي 2254، شريطة أن تتضمن أحكاماً صارمة لحماية الطفولة.

في لبنان، زاد عدد الانتهاكات إلى 669 حالة ضد 628 طفلاً، معظمها جراء القصف الإسرائيلي في الجنوب، وعمليات القنص أو القصف المتبادل. وقد دعا التقرير كل أطراف النزاع، خاصة إسرائيل وحزب الله، إلى الالتزام بالقانون الدولي ووقف استهداف المناطق المدنية، خصوصاً المدارس والمرافق الطبية.

الإمارات في مرمى الاتهام: تمويل الحروب وقتل الأطفال من خلف الستار

بعيداً عن لغة التقارير الدبلوماسية، فإن جذور كثير من المآسي التي تطال الأطفال في الدول المذكورة ترتبط بشكل مباشر بـ سياسات أبو ظبي. فبينما يظهر محمد بن زايد كراعٍ للاستقرار المزعوم، فإن تقارير أممية عديدة، من بينها هذا التقرير الأخير، توحي بأن طمع الإمارات في النفوذ الإقليمي والسيطرة على الموانئ والثروات دفعها إلى التدخل العنيف، سواء عبر تسليح قوات الدعم السريع في السودان، أو تمويل ميليشيات انفصالية في اليمن، أو دعم فصائل في ليبيا، على حساب مستقبل ملايين الأطفال.

وفي ظل غياب آليات مساءلة حقيقية، يستمر نزيف الطفولة، لتُظهر أرقام التقرير أن ما يجري ليس مجرد “أضرار جانبية” للحروب، بل سياسات ممنهجة من أطراف إقليمية وعالمية تهدف إلى تركيع الشعوب بتدمير أجيالها القادمة.

خاتمة: صمت دولي وغياب للمحاسبة

تقرير الأمم المتحدة لا يكشف فقط عن حجم الانتهاكات، بل يعري ازدواجية المعايير الدولية التي تغض الطرف عن القتلة متى كانوا من الحلفاء، وتتجاهل الممولين متى وفّروا الصفقات. وبينما تُدرج إسرائيل في “قائمة العار”، ويُدان الحوثيون و”بوكو حرام”، تظل أنظمة مثل الإمارات خارج دائرة العقاب، رغم سجلها الحافل.

لقد أصبح العالم في حاجة ماسة ليس فقط لتقارير تدين، بل لخطوات تردع، لأن الأطفال لا يجب أن يكونوا ضحايا لصراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل. فما لم تتم محاسبة القتلة الحقيقيين ومموليهم، فإن عام 2025 سيكون أكثر ظلامًا.

اقرأ أيضًا : السودان: اكتشاف 965 مقبرة جماعية في مناطق الدعم السريع.. جرائم إبادة بتدبير إماراتي