العدسه _ معتز أشرف

في تقدير موقف إستراتيجي جديد حول القضية الفلسطينية والأوضاع الراهنة ما بعد قرار “ترامب” بإعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني، أكد المفاوض الأمريكي السابق آرون ديفيد ميلر، المتخصص في أحوال الشرق الأوسط، والذي قضى 20 عامًا في دولاب أمريكا بشأن المفاوضات العربية الصهيونية، أن عملية السلام باتت شبه مستحيلة، ولا أمل في إحيائها في المنظور القريب، مؤكدًا أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنهى عملية السلام.

فرص معدومة!

في تقديره المليء بالتشاؤم! والذي نشره مركز كارينجي للدراسات الإستراتيجية ووصل (العدسة)، أكد المفاوض الأمريكي السابق آرون ديفيد ميلر، المتخصص في أحوال الشرق الأوسط، أن “الدبلوماسية التغييرية” ليست في المتناول، مشيرًا إلى أنه رغم مشاركته عن كثب في مفاوضات السلام العربية–الإسرائيلية، في إدارة كلٍّ من جورج بوش الأب، وكلينتون، وجورج بوش الابن، إلا أن المفاوضات اليوم دخلت طريقًا طريقًا مسدودًا، مؤكدًا أنه منذ غادر الحكومة في العام 2003، اتّسم تحليله لعملية السلام، بشكل مزعج ومتّسق، بالسلبية، ويعود ذلك جزئيًّا إلى أنني لم أعد مفوّضًا بابتكار أفكار لا يخفى علي أنها لن تثمر. والسلبية هذه تعود -إلى حد كبير- إلى ما كنت أراه بأم العين ولازلت أراه حتى اليوم، لا أتّفق في هذا الصدد مع جراوتشو ماركس حين يسأل في فيلم “Duck Soup”: “أتصدّقني أنا أم عينيك الكاذبتين؟”، حسنًا، أنا أعرف ما أراه، لكن إذا ما كنت تريد مفاوضات يمكن أن تتمخض عن حل الدولتين، يقتضي الأمر ثلاث مسائل لم تكن يومًا متوفّرة في تاريخ المفاوضات الإسرائيلية–الفلسطينية، وهي: أولاً، قادة هم أسياد اللعبة السياسية في بلادهم، وليسوا أسراها ولا أسرى إيديولوجياتها، أي أصحاب رؤى يملكون حس البراجماتية، وثانيًا، شعور بالإلحاح- (تألَّمْ واربَحْ)- يجعل من فوائد تغيير الوضع القائم أكثر جاذبية من مخاطر إبقائه على حاله، وثالثًا، وجود طرف ثالث، هو على الأغلب الولايات المتحدة، يملك الإرادة ومهارة لعب دور الوسيط، إذا شاء الطرفان ورغبا جديًّا في ذلك، غير أن هذه العوامل كلها غير متوفرة اليوم؛ لذا، تُعتبر حظوظ النجاح ضئيلة وتكاد تكون معدومة.

وحول تأثير اعتراف “ترامب” بالقدس عاصمة لإسرائيل في مستقبل المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، أكد “ميلر” أن عملية السلام كانت في غيبوبة قبل أن تدلي إدارة “ترامب” بدلوها في مسألة القدس، حيث فاقم هذا القرار صعوبة مهمة كانت أصلًا شبه مستحيلة، وجمع في خطوة واحدة ثلاث كوارث: مفاقمة تشظي صدقية الولايات المتحدة كوسيط؛ وتقويض جوهر المفاوضات؛ والدفع بأكثر المسائل حساسية المرتبطة بالاتفاق النهائي إلى صدارة الأولويات، في ظل غياب الثقة بين طرفي النزاع، وفيما هما أقل استعدادًا من أي وقت مضى للتعامل مع المسألة الحساسة هذه، ولا أذكر أية مصلحة أمن قومي أمريكي خُدمت من خلال قرار نابع من سياسات داخلية في المقام الأول، مشيرًا إلى أن القرار جاء في سياق رغبة “ترامب” في أن يكون صورة مختلفة تمامًا عن “أوباما” .

كفة الفلسطينيين

وحول ما يقال أمريكيًّا عن أن إسرائيل، وفي ظل غياب التسوية، ستواجه بلا شك معالجة العامل الديموغرافي الذي يميل بوضوح إلى كفة الفلسطينيين، ما يجعل إسرائيل – في محاولتها الحفاظ على يهوديتها- تتخلّى عن ديمقراطيتها، ويرى “ميلر” صواب هذا الرأي نظريًّا، مؤكدًا أن الحجة الديموغرافية وأثرها الكارثي المُحتمل على مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية مُقنعة، فالاحتلال الإسرائيلي يقوّض فعليًّا القيم الأخلاقية والمعنوية التي اعتقد الإسرائيليون أنها ستميّز الدولة التي أرادوا إنشاءها وتعزيزها، لكن التوازنات الديموغرافية هي عامل معقّد ومتقلّب، ويقتضي وقتًا قبل أن تتّضح وجهته، مع تحولات وانعطافات كثيرة ومتباينة، وعمومًا، يتعامل السياسيون مع الأمور وليدة اللحظة الراهنة التي يضطرّون إلى معالجتها، واليوم، هناك حقيقة وجود دولة واحدة، إذ تسيطر إسرائيل -بدرجات متفاوتة- على الضفة الغربية وغزة، وهذا واقع لا يبشّر بالخير للمستقبل، ويغذّي على أقل تقدير حلقة مفرغة من تسويات ومواجهات تُخمَد تارةً وتشتعل تارةً أخرى.

وأشار “ميلر” إلى أنه في الوقت نفسه، وفي ظل ضعف الحركة الوطنية الفلسطينية، قد يحسِب الإسرائيليون فعلًا أنهم قادرون على التحكّم بالمسألة الديموغرافية، فسكان غزة، وعددهم 1.8 مليون نسمة، يخضعون لسلطة “حماس”، وتبسط السلطة الفلسطينية حكمها على 2.8 مليون فلسطيني، على الرغم من أن إسرائيل تمسك بمقاليد أكثر من 60% من الضفة الغربية، وعلاقة الفلسطينيين في القدس الشرقية، وعددهم 300 ألف نسمة، بإسرائيل والسلطة الفلسطينية مختلفة، كما يشكّل 1.8 مليون فلسطيني من مواطني إسرائيل، كأقلية قومية “كوكتيل” تحديات من نوع آخر، ويبدو أن إسرائيل لا تقيم وزنًا يُعتد به لفلسطينيي الشتات؛ لذا، ستسعى إلى صوغ مقاربات مختلفة لكل من هذه الكيانات الفلسطينية المنقسمة والمنفصلة، محاولةً نزع فتيل التحدي الديموغرافي ليسهل عليها إدارته، حيث يساهم ضعف الحركة الوطنية الفلسطينية وانقسامها في تيسير هذه العملية، ومع الوقت، ما لم تُذلَّل المشكلة الفلسطينية ومعها مسألة السيطرة على الفلسطينيين بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، سيتواصل النزاع ويُهدّد قيم وأمن نظام الكيان اليهودي والديموقراطي.

الشاب المتهور!

“ميلر” يرى أن الفتى السعودي محمد بن سلمان، الذي وصفه بأنه “شاب متهور إلى حد ما”، أحد المشكلات في المنطقة، قائلًا: “للمفارقة، حَملت المملكة السعودية، التي درجت تاريخيًّا على تجنّب المخاطر، رايةَ جبه مساعي إيران بقيادة الشاب المتهور إلى حد ما، محمد بن سلمان، وانضمت إليها إسرائيل بشكل غير رسمي، ووجدت إسرائيل نفسها في نزاع مسلح مع إيران، بينما يتواجه السعوديون والإيرانيون في اليمن، لكن يبدو أن ما يحصل في اليمن وفي الخليج لن يطلق شرارة تصعيد كبير، على خلاف ما يحصل في سوريا، حيث ثَم خليط قاتل يجمع بين تصاعد النفوذ الإيراني وعزم إسرائيل على صدّه، ما قد يشعل فتيل نزاع أوسع، على الأرجح بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، وقد تنتهي الأمور إلى صيف حامي الوطيس في المنطقة”.

وأوضح “ميلر” أن صعود إيران، وانقسام العالم العربي وتعثّره، يؤدّيان إلى خلل في توازن القوى من شأنه إشعال فتيل نزاع أكثر حدّة بين إيران والدول السنّية، إضافةً إلى ذلك، يؤجّج قلق اسرائيل من دور إيران في سوريا الاضطراب في المنطقة، ولا ريب في أن إيران ليست مصدر خطر هائل، لكنها تواجه عالمًا عربيًّا يبدو أن دولًا بارزة فيه إما تدور في فلكها (العراق وسوريا) أو أنها مُنشغلة أكثر فأكثر بمشاكلها الخاصة، كما هي حال مصر، فيما تبقي الدول النافذة في المنطقة وجوارها اليوم، ثلاث دول غير عربية، وهي: إسرائيل وإيران وتركيا، فهذه الدول الثلاث تتمتع بالاستقرار وبإمكانات اقتصادية هائلة، وتملك جيوشًا وأجهزة استخبارات يُعتد بها تسمح لها ببسط نفوذها في المنطقة.

 المناخ صعب!

وأضاف “ميلر” في تقديره للموقف، أنه استنادًا إلى سنواته الطويلة في المفاوضات، تقتضي الدبلوماسية الناجحة شرطين على الأقل؛ فرص حقيقية سانحة لا تنفرد فيها الولايات المتحدة بالسعي إلى بلوغ اتفاقات متنوعة، وإدارة أمريكية ترغب في الاستفادة من هذه الفرص وتملك القدرة على ذلك، ويكفي أن يلقي المرء نظرة على المنطقة ليقول بسهولة إن المنطقة لم تمر بمرحلة أحوج مما هي الآن إلى الدبلوماسية الناجحة، غير أنها ليست في متناول اليد؛ فالظروف السائدة حاليًا لا تسمح للدبلوماسية الجريئة والتغييرية أن ترى النور، سواء في اليمن، أو الحرب الباردة السعودية-القطرية، أو الحرب السورية الأهلية، أو القضية الإسرائيلية–الفلسطينية، أو المواجهة الايرانية-السعودية، ويترافق ذلك مع غياب شروط النجاح الضرورية أو الأساسية، أي الشعور بالإلحاح، وتوفّر الإرادة المحلية، وإيجاد التوازن الصحيح في المصالح.

وشدد علي أنه في مقدور الجهات الخارجية المساهمة إلى حدٍّ ما في تهيئة الأجواء، بيد أنها عاجزة عن صناعة الإرادة أو السياسات المحلية التي من شأنها حمل الأطراف على المبادرة إلى اتخاذ قرارات صعبة، خصوصًا، في ظل توسّع هوة فقدان الثقة بين الطرفين، وهي هوة شاسعة وعميقة، شأنها شأن الأخدود العظيم، فالولايات المتحدة عالقة في شراك منطقة لا يسعها تغييرها ولا مغادرتها، لذا، يبدو أن الحل الوسط يقضي بإدارة النزاع لا حلّه، موضحًا أنه بعد مشاركته في 20 عامًا في المفاوضات العربية- الإسرائيلية، وعلى رغم كل الأخطاء، لم يشعر بأن جهوده ذهبت هباء، ولكن الإرادة المحلية أساسية، ومن دونها، يتعذّر كليًّا التوصّل إلى اتفاقات سلام.